الانتقال الديمقراطي في تونس ما بعد الثورة, أو لنقُلْ خلال الثورة, لأنّنا لا نزال في المسار الثوري الى حين ان نلمس بداية في تحقيق مطالب الثورة, تلك الثورة التي أكثَرَ السّاسة عل مختلف ألوانهم و توجهاتهم من تمجيدها و مدحها, بدا و من اول ايامه انتقالا عصيبا و تغلب عليه المؤامرات و التلاعب: فأول مرة في التاريخ يُسنّ قانون انتخابي باعتماد البواقي و هو في حدّ ذاته انقلاب على اختيار المصوِّت حيث يُعطِي صوته لحزب فيُحتسب فيما بعد في ميزان حزب آخر أو لا يُحتسب أصلا, لن نعود الى الوراء و نلعن القانون الذي نجحوا في تمريره, كما نجحوا في تمرير عدة قوانين و مراسيم, ولكن قلنا حينها ان المجلس سيكون التأسيسي سيّد نفسه, و أن الصندوق هو أبُ الشرعيّة, و قبل الاعلان عن النتائج النهائية, الكلّ اعترف بنزاهة العملية الانتخابية, و قالت عنها المراقَبة الدولية أنها ذات شفافية و نتائجها مصداقية. لكن النتائج كانت غير مرضية لمن كان يتشدق بالديمقراطية, فكانت الحقيقة انّ حجمهم لا يتعدى اصفارًا أو ارقاما احاديّة, فآثروا الاضرابات و الوقفات الاحتجاجية, و وصفوا الشعب بالجهل و الأميّة, لا لشي فقط لانه اختار بِحُريّة من رأى فيه الكفاءة و المصداقية. قبل النتائج قالوا عنك ذكيّا, و لكن بعدها صِرتَ يا شعبُ غبيّا أميّا, و يجب أن نكون عليك وصيّا. منذ نشأت الديمقراطية, منذ حوالي خمسة آلاف سنة, من اثينا الى اوروبا و من ما قبل الميلاد الى القرن الواحد و العشرين, لم نشهد مفهومين للديمقراطية, بل هي ظل المفهوم حكم الشعب, و حتى في مفهوم الدولة عند هوبز فالعقد الاجتماعي هو تنازل كل فرد على جزء من حريته لفائدة المصلحة المشتركة للمجموعة, و انّ رأي الاغلبية هو المقدّم على رأي الاقلية دونما ان يقع اضطهاد الاقلية, و في منطق التداول السلمي للسلطة هي ان نقبل باختيار الشعب و يعمل الخاسر في العملية السياسية على استدراك هزيمته في الدورة الموالية و في أغلب الاحيان نشهد تغييرا في قيادات الاحزاب الخاسرة ايمانا منها بضرورة ان يتغير الخطاب و الشخصيات, لكن ما نراه اليوم من هؤلاء المهزومين لا يكون الاّ جهلا بالديمقراطية, كيف لا يكون جهلا و حماقة حين يرفض الخاسر نتيجة الاقتراع و يُنصّبُ نفسه حامي حمى الحرية في حين انه يقمع حرية الاصوات التي رفضته و يتهمها بالغباء, هؤلاء يريدون ان يُطوّعوا و يصقلوا ارادة الشعب, حتى ولو استدعى الامر ارهابا فكريا و اعلاميا, وفقا لتوجهاتهم عوض ان يعملوا على تغيير و تصحيح رؤاهم علّها تتطابق و تطلّعات الشعب. حيث لم نشهد في الاحزاب الخاسرة لا تغييرا في القيادات, و التي كانت اكثرها سببا حاسما في فشلها, و لم نلمس في مواقفها توجها نحو المراجعة و النقد الذاتي بل على النقيض فهي تمضي قُدُما في نفس مسارها القديم و خطابها هو ذاته لا يخلو من التهجم على الطرف الفائز و بالتالي على الارادة الشعبية و الشرعية الانتخابية, و الوقائع تؤكّد انها خطابات لم تتأتى من برامج و اجتهادات و انما هي ليست الاّ محض افتراءات: قالوا انّ من فاز ثُلّةٌ ظلاميون و رجعيون و جاهلون لكن حين نقرأ عن قياداتهم نجد فيهم العلماء و الفلاسفة و المهندسون و الدكاترة و الحقوقيون... قالوا انهم يهمشون المرأة و يُحقرونها فنظرنا الى نساء التأسيسي وجدنا منهن 42 من اصل 49 امرأة و منهنّ الطالبة و الدكتورة و المحامية و الاستاذة... قالوا انهم تهديد للحريات و لكن رأيناهم يدافعون عن حرية المعتقد و اللباس و يقرون بضمان هذه الحرية حتى للأقلية و يدعون لحوارات وطنية حول المسائل الخلافية. إنّ هذا لا يمثّل جهلا فقط بقواعد اللعبة الديمقراطية و إنما لا مسؤولية في العمل السياسي و هذا لا يشفعه حداثة التجربة الديمقراطية لأن ذلك من أبجديات العمل السياسي اصلا. و في المستوى الثاني, يجب ان لا نغفل عن دور الاعلام في تيسير العملية الديمقراطية و انجاحها, لكن هذا إن كان الاعلام مستقلاّ من أي ايديولوجية, و المتابع للإعلام التونسي سوى في المؤسسات الاعلامية الحكومية أو الخاصة, يلحظ و بوضوح أنها أقرب أن تكون مؤسسات تابعة لتيار سياسي " يساري " بالأساس فالخطاب الاعلامي سوى كان تلفزيا, إذاعيّا أو مكتوبا خطاب يفتقد إلى أدنى الحرفية المهنية و الأمانة الصحفية و الضمير المهني, هو خطاب موجّه لاستهداف تيار الاسلاميين سوى قبل الانتخابات أو حتى بعد فوزهم هذا من ناحية, و من ناحية ثانية خطاب يُهمّش القضايا المركزية التي تشغل المواطن و يهتم بقضايا جانبية فيُضخّمها و يصوّرها كارثيّة ثمّ لا ينقل من حقيقتها إلاّ ما تيسّر فقط فيُشوّهها و على سبيل المثال لا الحصر , لماذا لم يهتم الاعلام بخطورة الاضرابات التي تتالت في الآونة الاخيرة فهو لم يتحدّث حتى على تأثيرها على الاستثمار و لم يورد خبر انتقال مشروع الطائرات إلى دولة المغرب, ذاك المشروع الكندي الذي يُعتبر هاما حيث كان من المفترض أن يستقطب حواي الخمسة آلاف موطن شغل منهم حوالي سبعة مائة إطار. أليس ما يهم المواطن هو التشغيل' فلماذا نخفي عنه ذلك و نحاول إلهاءه بترهات لا تسمن و لا تغني من جوع, ثمّ لماذا يتجاهل الاعلام بثّ مداولات المجلس التأسيسي؟ أليس من حقّه أن يتابع من صوّت له أهو على عهده معه أم إرتّد على العهد؟ أم أن تجربة بث اليوم الأول قد بيّنت سفسطة بعض الاطراف و نفاقهم السياسي ثمّ و بحكم ولاء الاعلام لهم وقع تهميش و رفض النث المباشر و نحن نعلم من طالب بان يكون البث مباشرا و من رفضه فهذا موثّق كما نعلم من رفض ان يكون من حق أي مواطن عادي ان يطّلع على محاضر جلسات المجلس التأسيسي و من طالب بذلك. لكن الا يجب ان تعتبر يا إعلام التفاهة أنّ نهجك هذا أثبت فشله و لك في إخوتك من "النسمات" عبرة. و في المستوى الثالث يبقى القضاء و في الاطالة في الحديث عنه لا جدوى فهو بات جهازا للتبرئة لا المحاسبة و كل متهم من الفاسدين فيه برئ و لا فائدة من اثبات براءته, ففيه قرار بتحجير السفر عند الضحى, فيُنقض القرار عند المساء, و يخرج المتهم من فساده براء. لكن و رغم هذه الضوضاء التي كان ايام الشتاء مثيروها يعتصمون في القبة فيما كنا نحن في القصبة للعراء و هاهم اليوم, و بدعم من الاعلام و الاحزاب الخاسرة و دعاة التعرّي و اقصاء الحياء, و بحماية من اعوان الامن الذين كانوا يخنقوننا بالغاز في منتصف جويلية و يدنسون جامع القصبة, رغم هذا فنحن اليوم الاكثر شرعية و الاكثر أحقية بأن نتحدّث باسم الشعب الذي أقصاكم فاتهمتموه بالغباء لانه جعل نسبتكم لا تتجاوز رقم الآحاد في نسبتنا, لقد اعطاكم حجمكم الحقيقي فاعترفوا و لتتفكّروا و لا يُغرّنكم ثُلّتكم و ضوضاؤها في باردو فاليوم ستعرفون و يعرف الاعلام و نذكّركم و نذكّره بأننا نحن الشرعية و لا مجال للالتفاف على الشرعية الانتخابية. ---------------- صابر المحمودي - مهندس - فرنسا