يذهب نعوم تشومسكي الى ان ثقافة الخوف "هي ثقافة طارئة على المجتمعات المعاصرة، تم تصنيعها بشكل متعمد، وتهدف الى التأثير على الجماهير التي ينتابها الشك و عدم الثقة بالأشياء المحيطة بها، فلا تجد فرصة أمامها للتخلص من هذا الشك و الريبة والخوف إلا بالاعتماد على النظام السياسي ودعمه، ذلك النظام الذي أوجد أصلا هذه الحالة المشاعرية بينهم". وفي هذا الإطار تشهد تونس منذ ما بعد الثورة، وخاصة منذ حكومة النهضة الأولى، تزايدا مطّردا لمظاهر الخوف الموجه، تخللها قتل شكري بلعيد الى تفجير الألغام في جبل الشعانبي وقتل جنود ابرياء. ويفترض نعوم تشومسكي، في اراءه، وجود نظام سياسي يدعم نشر ثقافة الخوف للوصول الى اهداف واضحة. والملاحظ الى المشهد السياسي التونسي، فانه سيدرك بكل يسر بان لا نظام سياسي جديد حلّ محلّ نظام المخلوع، فقد سقط رأس النظام في ملحمة تاريخية قادها الفقراء، وبقت مؤسساته في حراك اكثر مرونة من ذي قبل، خاصّة وإنها باتت تستعمل المؤسسات و الأعلام ورؤوس الأموال الفاسدة بأكثر جرأة وأكثر حرفية ايضا. حكام اليوم هم اضعف ممّا يتوهّم ال بعض، حزب المؤتمر صار مؤتمرات، والتكتل فيه تكتلات، والنهضة لا حكم لها على قصر الرئاسة ولا في المجلس التأسيسي، اذ تحتاج لألف تنازل لكي تمرّر قانونا او مشروعا، ولا سلطة لها في الحكومة مع انها سعيدة برئاسة ليس لها في وزاراتها من سيادة. ثم ان هذه المرحلة، لازالت تبحث لها عن عنوان، ولم تحترم القوى السياسية فيها قواعد اللعبة الديمقراطية وصوت الأغلبية، فقد كانت مرحلة ليْ الذراع وتكسير الأعناق، والبلطجة بامتياز، وقد شاهدنا بعض مما يحصل في غرف اللجان من مثل اعتداء النائب عمر الشتوي على زميلته وهو يفتكّ اوراقها امام مرأى ومسمع الجميع، وأمام عدسات المصورين. فالنظام السياسي الحالي الذي يقود المرحلة من وراء حجب، هو نظام المخلوع، الذي لم يسقط إلا رأسه وبقت اذرعه مسيطرة على تفاصيل الدولة والحكم، بكل الوسائل، مؤسسات وإعلام ومال فاسد، ورجال الجريمة المنظمة وخريجي السجون. وقد كانت تصريحات الباجي قائد السبسي الأخيرة في خصوص قانون تحصين الثورة، جدّ خطيرة في كونها تشير الى تهديد مبطّن، وهو يقول "يحبّوا يعملوه (أي القانون) !! كل واحد يتحمّل مسئوليته" ويضيف "انصحهم بعدم تمريره"، هذا الكلام خطير لأنه قد تزامن مع ارسال رسالة تهديد الى النائب البشير النفزي من حزب المؤتمر، اذ تقول أحد أسطرها "قرّرنا قتلك والتنكيل بجثتك" طبعا لو وافق على تمرير هذا القانون. ويبدو بأن من الأهداف الكبرى لجماعة "النظام الحاكم من وراء حجب" هو العودة الى المشهد السياسي من بابه الواسع، ألا وهو الانتخاب، وهو ما يفترض الغاء قانون العزل السياسي، وهم على استعداد تام للقتل والتنكيل بالجثث حسب ما ورد في رسالة النائب النفزي. ومن هنا تطرح الأسئلة من كل ابوابها، من قتل شكري بلعيد، وهو قتل اريد به اسقاط الحكم أوّلا؟ ومن يفجّر حاليا في الألغام في جبل الشعانبي، ويتعمد الى قتل الأبرياء غدرا وبهتانا؟ فتفجير الألغام بالشعانبي، لا يهدف الى اسقاط الحكومة، وإنما يهدف الى بثّ الرعب والخوف بين الناس، فما معنى بان يخرج قيادي راشد وهو الناطق الرسمي للجيش التونسي ليقول لنا "ان الإرهابيين غير موجودين بالشعانبي ، انهم انتقلوا بين الناس، وإنهم قد فجروا الألغام هذه المرّة في منطقة سكنيّة"، مع ان الحال يقول بان التفجير الأخير الذي ذهب ضحيته جنديين كان في منطقة عسكرية !! وبعيدا عن السكان.. ثم لماذا يصر على كون الإرهابي ين قد انضموا الى المواطنين، فهل يعني ذلك بأنه قد نشهد تفجيرات بين الناس؟ وهؤلاء الناس لا يعتقدون اصلا بوجود ارهابيين لا في الجبل ولا بينهم !!! ومع ذلك فقد تملّك الخوف كل الأهالي، وأصبح بعضهم يجاهر بما يناقض المرحلة، فيتمنى مرّة عودة المخلوع ونظامه، ومرّات اخرى يشيدون بقوة نظامه وسيطرته على الأمن. ان تأخير انجاز الدستور وتأخير الانتخابات الى ابعد حدّ يندرجان ضمن سياسة اعطاء الوقت الكافي لكي تفعل سياسة الترويع والتخويف فعلها في الشعب، فلا نستغرب مستقبلا بان تقع انفجارات اخرى وعميلات اغتيال لنواب في التأسيسي او لأحد الوزراء، تنتهي بخروج الناس في مسيرات حاشدة تطالب بعودة الحزب "المنحل" من خلال وكلائه وشركائه. وهو ما يجب ان تنتبه اليه كل الأحزاب "الصادقة" والبحث عن حلول حقيقيّة لأزمة الثورة التونسية التي لا تزال تراوح بين الواقع والأمل. د/ محجوب احمد قاهري 09/06/2013 .