استعادت تونس هدوءها بسرعة ملفتة، بعد التوافق على تكليف مهدي جمعة رئيسا للحكومة. وتتالت وعود الدّعم وقرارته، إثر تولّي الحكومة الجديدة مهامها. فقد نجح جمعة، في إعطاء انطباع للرأي العام التونسي والعالمي، منذ الإعلان عن تكليفه، بأنّه يدرك الواقع الصّعب الذي تعيشه البلاد على المستوى السياسي والأمني بالخصوص، وكذلك الإجتماعي والإقتصادي، وأنّه يريد أن يعمل في صمت. وهكذا قدّمه داعموه في الداخل والخارج، واجتهدت في ترسيخه - تبعا لذلك- وسائل الإعلام. فقد انطلقت بسرعة مطاردة ما يسمّى بالإرهابيين، الذين قالت عنهم السلطات الأمنية إنّهم ضالعون في اغتيال المعارضين السياسيين شكري بلعيد ومحمد براهمي، وإنهاء خطرهم في الأسبوع الأوّل من عمر الحكومة، اعتقالا أو قتلا. وتوقّفت حركة الإضرابات العمالية التي هزّت البلاد وشلّت اقتصادها خلال فترة حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض في العامين المنقضيين. فقد تجاوزت الإضرابات العمالية التي دعا إليها الإتحاد العام التونسي للشغل ونقاباته، خلال فترة حكومة الترويكا التي قادتها حركة النّهضة، جميع الإضرابات التي عرفتها تونس طيلة ثلاثة وعشرين عاما من حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في عددها ومدّتها. وعلى المستوى الإقتصادي، تمّ الإفراج عن مبالغ هامة من المال لتبعث الحياة في اقتصاد كان على شفا الإنهيار. فاتصلت كريستين لاغارد المديرة العامة لصندوق النقد الدولي بمهدي جمعة، لتؤكّد له دعم الصندوق لتونس "بعد الإنتقال السّلمي للسلطة"، وتضخّ فيه مبلغا أوّليا يزيد عن نصف مليار دولار. وأعلن الإتحاد الأوربي عن تخصيص مبلغ ثلاثمائة مليون يورو لدعم تونس. وبدأ الدينار التونسي يسترجع مكانه مقابل اليورو، بعد تراجعه المخيف، طيلة السنوات الثلاث المنقضية من عمر الثّورة. دوليّا، فتح مجيء مهدي جمعة وحكومته، شهية الدول الكبرى لتعلن دعمها ومساندتها له، وتؤكّد حرصها على استقرار البلاد ونجاح تجربتها الجديدة في الحكم. فقد حضر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بنفسه، الإحتفالات بإقرار الدستور الجديد، ليعلن مباشرة من تونس دعم فرنسا لحكومة جمعة. ولم تتأخّر إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بدعوة جمعة إلى زيارة واشنطن موفّي فبراير الجاري، في خطوة اعتبرت دعما مباشرا للحكومة الجديدة. وإقليميا، رحّبت كلّ من الجزائر والرباط بحكومة جمعة، وعبّرت القيادة السياسية في كلا البلدين عن دعمهما لها، خلال زيارته لهما في الأسبوعين الأوّلين من مباشرته مهامه. أمّا داخليا، فقد تعاملت وسائل الإعلام العمومي بإيجابية مع أنشطة الحكومة، بعد أن دأبت خلال السنتين الماضيتين على تجاهل معظم أنشطة الرئيس منصف المرزوقي ورئيسي الحكومتين السابقتين. وعلى المستوى الحزبي، تراجعت درجة التوتّر بين الفرقاء، وطفحت صور العناق والتصافح بين قادة الأحزاب، بدل التراشق اللفظي العنيف جدا أحيانا، والذي طبع علاقات الفرقاء السياسيين. فما هي العصا السحرية التي جاء بها المهدي جمعة، أو جاءت به، لتنعم تونس بكلّ هذا التحسّن الإيجابي الشامل تقريبا، والذي غاب عنها طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمر الثّورة؟ ليس هناك ذرّة من الشّك، في أنّ الهدوء الذي حصل، والترحيب الذي جاء من كلّ فجّ، في مصلحة البلاد وأهلها. فقد عاش التونسيّون فترة صعبة جدّا، من الإنفلات الأمني والإحتقان السياسي، والتوتّر الإجتماعي والإختناق الإقتصادي، زادته إيحاءات الإنقلاب في مصر وتداعياته، شدّة وسوداوية على التونسيين. ولكن ما هي كلمة السّر التي غيّرت أحوال البلاد من النّقيض إلى النّقيض؟ إنّها بكل بساطة ووضوح، انسحاب أحزاب الإئتلاف الحكومي، وخصوصا منها حركة النّهضة، من الحكومة. فوجودها في الحكم، جعل خصومها يستميتون في محاربتها، واستعمال جميع الوسائل الممكنة في التشكيك والإرباك، لإخراجها من الحكم، بأيّ وسيلة. ولم يتردّد البعض في الدعوة إلى التمرّد والعصيان، بل حتى محاكاة الإنقلاب الذي حصل في مصر. ونجح هؤلاء في إشاعة الإحساس بالفوضى العارمة التي لم يسلم منها قطاع أو جهة من جهات البلاد. فإذا ضعف صوت المحتجيّين قليلا، دخلت السلفية الجهادية على الخط، في جبل الشعانبي وفي أماكن أخرى مختلفة من البلاد، لتكمل المهمّة بلغة الرصاص والتقتيل، وكأنّها جزء غير منفصل عن السنفونية التي تريد إسقاط حكومة النهضة كما يسمّونها. إلى جانب الضّغوط العلنية المباشرة، كانت هناك إيحاءات ورسائل من أطراف إقليمية ودولية، تجتمع في رفض القبول بنظام يحمل نفسا ثوريا، مهما اجتهد بعض الفاعلين فيه في إضعاف هذا النّفس إلى حدّه الأدنى. وحصلت قناعة لدى قادة الإئتلاف الثلاثي الحاكم، أنّ الحكومة التي شكّلوها، لم تهضمها معدة النّظام الدولي الراهن، وأنّ استمرارها يزيد في خنقها، فقبلوا بعد تردّد ب "توافق وطني" على حكومة غير متحزّبة، تضع حدّا للإحتقان الحاصل. لقد صعب على النّظام الدولي القائم، القبول بقوى سياسية جديدة تخرج من زاوية اللاشرعية، إلى مربّع الحكم، ولو في بلد صغير لا يملك ثروات نفطية أو غيرها، مثل تونس. هكذا اشتدّت الضغوط على الأحزاب والحركات التي نظّرت للثورة، وحملت لواءها، بهدف إفشالها، أو على الأقلّ إرباكها لتتراجع عن تولّي الحكم، وعن تصدّر المشهد السياسي في البلاد التي فجّرت أوّل ثورة عربية معاصرة على نظام الإستبداد. واستعملت في ذلك إمكانيات ووسائل ضخمة، وبشكل متدرّج، لعلّ آخرها، التلويح باغتيال الشيخ راشد الغنوشي. وسمعنا لأوّل مرّة، أصوات "الديمقراطيين" المحليين والدوليين، ينادون بضرورة تخلّي الأغلبية المنتخبة، عن الحكم، طلبا لاستقرار مفقود، وصيانة لديمقراطية مهدّدة. ورغم أنّ السيد مهدي جمعة يحظى باحترام معظم الأطراف السياسية، واتّخذ إلى حدّ الآن نفس المسافة من مختلف الأحزاب والتيارات النشيطة في الساحة، فإنّ تزكية سفراء الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الإتحاد الأوربي له في هذا المنصب، كان حاسما في قبول الجميع به خلفا لعلي لعريض. لقد فرضه سياق وطني وإقليمي ودولي يتجاوز حجم قصر الحكومة بالقصبة، وأبعد من ضغوط الوضع التونسي المتقلّب. فالإنفلات الأمني الذي تشهده الجارة ليبيا، والقلق السياسي الذي يلفّ أحوال الجزائر، ويتّخذ من الإنتخابات الرئاسية عنوانا له، ومعركة الديمقراطية التي تعيشها مصر على وقع الإنقلاب، وأنهار الدّم البريء التي تسيل في سوريا، وغيرها من معارك أخرى معلنة وغير معلنة في بلاد العرب، تؤثّر بشكل مباشر في تونس، وتسهم في إنجاح مهمّة حكومة جمعة أو فشلها. وإذا أقررنا بأنّ معركة الديمقراطية لا يمكن حسمها في بضعة أشهر، فإنّه من المنطقي أن نسأل: من يضمن قبول الفرقاء المتشاكسين في تونس، بنتائج الإنتخابات المقرّر إجراؤها خلال بضعة أشهر؟ ومن يمنع هؤلاء الذين اعترضوا على حكم من أفرزتهم انتخابات أكتوبر 2011، من تكرار اللّعبة؟ والأخطر من كلّ ذلك، هو أنّ تسفيه نتائج الإنتخابات، لا يزرع إلاّ التطرف والتكفير، ولا ينتج إلاّ الفوضى. ويلتقي في البحث عن هذه الموائد المسمومة، المكفّرون بالدين، والمكفّرون بالديمقراطية. فهل تستسلم الأغلبية المتعقّلة، لنزوات مجانين السياسة؟