تتفق أغلب الكتابات عن مؤتمر النهضة الأخير حول ملاحظات إيجابية تتعلق بالشكل من حيثُ التنظيم والإنضباط والإخراج وتتعلق أيضا بالإشارات المضمونية حول المدنية والتشاركية والمواطنية وحول الإنصراف إلى خدمة الناس بدل خدمة الحزب والإيديولوجيا. حضور سيادة رئيس الجمهورية له دلالته الرمزية والجوهرية أيضا حين أكد على قناعته بكون حركة النهضة لا تمثل خطرا على الديمقراطية وحين شهد لها بدورها الإيجابي في تحقيق الإستقرار عبر الحوار ومبدأ التوافق... الرئيس سيكون سعيدا بالتأكيد بما وجده من ترحيب لدى "شعب النهضة" وهو ما سيُشجعه على لعب دوره الكبير في محاولة التأليف بين التونسيين إذ وجه دعوة ذكية إلى ذاك الجمهور بقبول فكرة المصالحة الشاملة معتمدا آياتٍ قرآنية تحث على الصبر والعفو وهو بذلك لا يدعو إلى تأييد مشروعه هو فقط وإنما يحث جمهور النهضة على تسهيل مهمة الأستاذ راشد الغنوشي في تنقية الأجواء السياسية في البلاد بهدف التفرغ إلى خدمة حاجات الناس الأمنية والمعيشية. . مؤتمر حركة النهضة بما شهده من حضور جماهيري كبير ومن مشاركة مهمة لضيوف نوعيين من الداخل والخارج سيكون بالتأكيد "عقدة" نفسية ونضالية لخصومها الشرسين وسيكتشفون حقيقة مرة هم مكرهون على اجتراعها وهي مهارة الغنوشي السياسية وقدرته على تغطيس الجميع في "الحوض البارد" وتفويت الفرص على كل الدسّاسين والفوضويين. . هذه ملاحظات لا بد منها في تثمين الحدث وأهله وفي إشاعة حالة من الأمل والشوق إلى مستقبل أرقى وأنقى وعلاقاتٍ بين التونسيين أقل توترا وخصومة. غير أنه من الضروري الإشتغال على طرح الأسئلة ورفع إشارات التنبيه بهدف تحفيز أصدقائنا على التفكير والإنتباه. . إن السياسة هي كما يقال فن التعامل مع الممكن وفن المواءمة بين المتاح والمأمول وهي في وجه من وجوهها حالةٌ من التفاعل الواعي المسؤول مع الإكراهات وهو ما أعبر عنه ب"الإرتهانات" في ظل واقع محلي وإقليمي ودولي عاصفٍ ليس له قرار ولا أمنَ فيه للسكونيين والغافلين... من حق بل ومن واجب قادة النهضة وحكمائها التحيين الدائم للطرائق والمناهج ومفردات قاموس الخطاب في مواجهة تلك العواصف وليس في الأمر "تقلبٌ" ولا "تلوّن" وإنما هو المهارة والبداهة والفطنة بل والعبقرية الخلاقةُ التي ترفض أن تُسلم مصائر الناس للعبث. كنتُ كتبتُ منذ أيام قليلة تدوينة نصها: "أيها الأصدقاء ناوروا في السياسة التي هي لبوسٌ يبلى ويتجدد ولكن لا تناوروا في الثقافة التي هي ماءُ الحياة ودليلنا إلى المستقبل وحريرُ "ثورة" نراودها كما عروس ترفض أن تعتدل". . إذا كان مطلوبا من السياسيين "المناورة" تجنبا لغرق "السفينة" بكل أهلها فإن المطلوب من أصحاب الرأي الحر أن يظلوا على مسافة تُتيح لهم وضوح الرؤية حتى يقدموا ملاحظاتهم ونصائحهم ونقدهم بكل صدق وشجاعة خدمة للحق والحقيقة ودفاعا عن العناوين الكبرى التي هي ضمانة سلامة العمران المجتمعي وضمانة عدم تلويث ماء الإنتماء... الإنتماء للجذور وللمعاني الكبرى وللقيم الخلاقة... على أصحاب الرأي أولائك ألا يبحثوا عما يسترضون به العوام والحماسيين وعليهم أن يتحملوا ما يجدونه من أذى يمارسُه عليهم كثيرٌ ممن حسُنت نواياهم وساء تقديرهم... المثقف الحر لا تقوده الأهواء إنما تقوده الأسئلة ولا يبحث عن جمهور إنما يبحث عن الأفكار. . حين يؤكد قادة الحركة على شعار "تونس قبل النهضة" فإنهم لا يوجهون رسالةَ طمأنة للخارج ولخصومهم فقط وإنما هم وبالأساس يوجهون فكرةً أساسية لأنصارهم ولأبناء الحركة مفادها ألا تُضيعوا الحقيقة دفاعا عن الحركة وألا تقتلوا العقل دفاعا عن الحزب وألا تعادوا المختلفين دفاعا عن المؤتلفين وألا تمارسوا "الحراسة" المشددة على النقد والإنتقاد وألا تَحْبسوا الرهانات الكبرى للحركة في الإرتهانات التي يجتهد السياسيون في مُحاذرتها. . إن المشاريع الكبرى لا يُسيء إليها خصومها وأعداؤها إنما يُسيء إليها المتعصبون إليها وأدعياء نُصرتها حين يسيئون إلى التفكير والنقد والتعبير الحر وحين يخوضون معارك مع الناس دفاعا عن أحزاب وحركات سياسية يُفترض أنها ليست إلا وسيلة لخدمة الناس.