مشهد العاصمة التونسية عبثى، فبينما تشهد احتقانًا ديمقراطيًا وقمعًا يتعاظم بمعدل أعلى بكثير من معدلات النمو التى تتباهى بها وتسوقها عالميًا بإعلانات مدفوعة الأجر، تشهد ممارسات ضد المعارضين السياسيين والحركة النقابية والإعلام الورقى والإليكترونى و... وهى تتجمل أمام الخارج الذى لم يعد يكتفى بالصمت على ممارستها، إذ تتوالى التقارير الحقوقية التى تدين واقع الحريات فيها بشكل دائم، ومؤخرًا كانت تونس على موعد مع واحدة من مفارقات هذا الوضع العجيب عندما شهدت مؤتمرًا دوليًا عن قضايا الشباب، بينما تواصل التنكيل بالكاتب المعروف بمواقفه المعارضة توفيق بن بريك. منتدى المستقبل بعاصمة القمع المؤتمر الدولى كان موضوعه ضرورة دعم الشباب عبر التعاون بين الشمال وبين الاتحاد الأوروبي والعالمين العربى والإسلامى، وحسب البيان الختامى ل"المنتدى الدولى حول الشباب والمستقبل" فإنّ من الضرورى "دعم البناء المعرفى للشباب وتطوير مؤهلاتهم ومهاراتهم التخصصية والحياتية وتنمية كفاياتهم وقدراتهم على التدبير المستقل والتصرف الرشيد والحل الناجع للمشكلات". وأكد المشاركون فى الحدث "أنّ الأمم بشبابها والعالم بشبابه وأنّ الشباب إشراقة حاضر الأمة وأمل مستقبلها". والندوة نظمتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم واتحاد المغرب العربى .
وفى كلمته الافتتاحية قال الرئيس بن على "إنّ هذه المبادرة وما سبقها من العديد من المبادرات التى حظيت بإجماع أممى تهدف إلى خدمة قضايا التربية والصحة والتضامن والتنمية والسلام فى العالم باعتبارها قواسم مشتركة تجمع بين البشر كافة وتحفز وازع الخير لدى الرأى العام العالمى لترسيخ هذه الفضائل فى العلاقات الدولية". معاقبة جامعة وبينما الإعلام الرسمى التونسى يهلل كالمعتاد للمؤتمر وحصيلته الوفيرة كانت السلطات التونسية تتخذ قرارًا بإغلاق جامعة "الحرة" بسبب كتاب لمديرها ينتقد فيه النظام السياسى الحاكم، والحرة واحدة من أقدم الجامعات إذ تأسست عام 1973 وتستقبل 1500 طالب معظمهم من دول فرانكفونية. مدير جامعة الحرة وهو فرنسى تونسى قال إنّ إغلاقها يعتبر ردًّا من السلطة فى تونس على كتاب نشره مؤخرًا ينتقد فيه النظام. وقد تلقت الجامعة إشعارًا من وزير التعليم العالى يقضى بغلقها "نظرًا إلى المخالفات الإدارية والبيداغوجية التى تم رصدها فى أداء هذه المؤسسة"!!. الكتاب الذى تسبب بإغلاق الجامعة "عندما أدركت أنّ تونس ليست بلد الحرية" وصدر فى فرنسا قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة التى فاز فيها بن على، وفيه ينتقد السياسة الحكومية التونسية. صفعة هيومان رايتس ووتش وبالتزامن مع قرار غلق الجامعة جاء صدور التقرير السنوى لمنظمة هيومان رايتس ووتش حاملًا صفعة أخرى لنظام بن على، فالتقرير يؤكد أنّ النظام يستخدم تهمة الإرهاب والتطرف الدينى لقمع المعارضين السلميين وهناك تقارير مستمرة وموثوقة عن اللجوء للتعذيب وسوء المعاملة للحصول على اعترافات من المحتجزين المشتبه بهم.
وعن الانتخابات الرئاسية قال التقرير إنّها تمت فى ظل قوانين تهدف لاستبعاد المعارضين صراحة، فضلًا عن أعمال الترهيب والرقابة ضد أولئك الذين سمح لهم بمنافسة الرئيس وهو ما تلاه إجراءات منعت التصويت من أن يكون حرًّا ونزيهًا.
ومن الوقائع الواردة بالتقرير أنّ محامية حقوق الإنسان راضية نصراوى وزوجها حمة الهمامى، رئيس حزب العمال الشيوعى التونسى المحظور تعرضا للاعتداء فى 29 سبتمبر - أيلول - من قبل رجال شرطة فى زيّ مدنيّ بمطار قرطاج فى تونس والهمامى قد عاد لتوه من باريس، حيث أجرى مقابلة مع قناة الجزيرة، اتهم فيها الحكومة التونسية بالقمع وانتهاك حقوق الإنسان، ودعا لمقاطعة الانتخابات.
وعن الأوضاع العامة للمدافعين عن حقوق الإنسان قال التقرير: إنّ السلطات رفضت منح الاعتراف القانونى لكل منظمة حقوق الإنسان مستقلة حقًّا تقدمت بطلب على مدى العقد الماضى. ويخضع المدافعون عن حقوق الإنسان والمعارضون لرقابة مشددة، وحظر سفر تعسفى، فضلًا عن الفصل من العمل، وانقطاع فى الخدمة الهاتفية، والاعتداءات الجسدية، ومضايقة الأقارب، وأفعال التخريب والسرقة المشبوهة، وحملات التشهير فى الصحافة.
أما أعضاء الرابطة الدولية لدعم السجناء السياسيين، غير المعترف بها، فهم أهداف عادية لمضايقات قوات الأمن. وفى أبريل - نيسان - 2009 تحدثت هيومان رايتس ووتش مع السجناء السياسيين السابقين فى اجتماعات نظمتها الرابطة الدولية لدعم السجناء السياسيين، فراقب رجال شرطة فى زيّ مدنيّ عن كثب باحثين من هيومان رايتس ووتش والأشخاص الذين تمت مقابلتهم، وأوقفوا بعض هؤلاء للتحقق من هوياتهم وسؤالهم عن الاجتماعات. محنة الحقوقيين وفى 15 سبتمبر - أيلول -، اعتقلت الشرطة تسع ساعات المدافع عن حقوق الإنسان السجين السياسي السابق عبدالله الزوارى فى حاسي جربة. وقال الزواري إنّهم حققوا معه حول عمله الإعلامي والحقوقي في السنوات السبع الماضية، وهددوه إذا لم يكف عن انتقاد الحكومة. وقبل أسابيع كان الزواري قد أتم 7 سنوات من الإقامة الجبرية، بعد السجن، فى قرية نائية بعيدة عن منزله فى تونس الكبرى، وضمن ذلك عامان فرضتها السلطات بأمر شفوي - دون أن توفر أساسًا قانونيًّا - فى ختام العقوبة الأصلية بخمس سنوات من "الرقابة الإدارية".
ورغم أنّ دستور تونس ينص على استقلال القضاء، فإنّ السلطة التنفيذية تؤثر تأثيرًا قويًا فى عمل القضاء عمومًا وفى القضايا ذات الطابع السياسى، تفشل المحاكم فى ضمان محاكمات عادلة للمتهمين. والادّعاء العام والقضاة عادة ما يغضون الطرف عن مزاعم التعذيب، حتى عندما يطلب محامو الدفاع رسميًّا إجراء تحقيق. فالقضاة يدينون المتهمين فقط أو فى الغالب على أساس اعترافات انتزعت قسرًا، أو بناء على شهادة الشهود الذين لا يملك المتهم فرصة مواجهتهم فى المحكمة.
وندد التقرير تنديدًا شديدًا بواقع الحريات الإعلامية، فلا يوجد من بين المطبوعات ووسائل الإعلام المحلية ما يُقدم تغطية نقدية لسياسات الحكومة، باستثناء عدد قليل وتقوم الحكومة بحظر الوصول إلى مواقع الإنترنت السياسية أو الحقوقية المحلية والدولية التى تتميز بالتغطية الصحفية المنتقدة لتونس. وفى 15 أغسطس - آب - 2009، قام صحفيون مؤيدون للحكومة بفصل مكتب النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والاستعاضة عنه بآخر جديد يسيطر عليه أعضاء موالون للحكومة. وجاء هذا الإجراء عقب حملة لتشويه سمعة المكتب السابق ورئيسه المنتخب ديمقراطيًّا، بعدما أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين فى مايو - أيار - تقريرًا ينتقد قمع الحكومة لوسائل الإعلام. بن بريك الرمز وقد تحول ملف الصحفى المعارض توفيق بن بريك إلى نموذج للفشل الذريع الذى تواجهه الدبلوماسيّة التونسيّة، فى مسعاها لتصوير تونس تجربة تقدمية، وفى الوقت نفسه الصمت العاجز إزاء الإدانات المتكررة لما يمارس بحق بن بريك الذى فشلت تونس فى احتمال انتقاداته!! وقد مثل بن بريك أمام القضاء مجدّدًا ليصف مثوله أمام قضاء بلاده بأنه "محاكمة سياسية" وكان بن بريك قد حكم عليه بالسجن 6 أشهر من قبل محكمة ابتدائية فى نوفمبر - تشرين الثانى -. وأكد بن بريك خلال محاكمته ابتدائيًا أنّه وقع "ضحية شرك" نصب له من الشرطة السياسيّة - على حد قوله - وذلك بسبب كتاباته التى ينتقد فيها النظام التونسيّ. وأدين بتهم "أعمال عنف والإساءة علنا للأخلاق الحميدة والإضرار المتعمد بأملاك الغير". وقد أثارت محاكمة بن بريك التى اعتبرت على نحو واسع "محاكمة رأى" بسبب مقالاته فى الصحف الفرنسية التى انتقد فيها الرئيس بن علي، ما سبب توتّرًا دبلوماسيًّا بين تونس وباريس. وسبقت المحاكمة حملة للإفراج عن بن بريك فى فرنسا والبرلمان الأوروبي.