يطلع علينا بين الفينة والأخرى ثلة من المتهافتين الذين يجترون حديث المصالحة مع نظام ثبت للقاصي والداني أنه لا يفقه من السياسة إلا الكذب والتزوير والخداع فضلا عن الملاحقات الأمنية والتعذيب والتضييق على أرزاق الناس والدوس على كرامتهم واحتقارهم. أقول من المتهافتين لأنني لم أجد توصيفا آخر أبلغ منه دلالة على حالهم الذي لا حاسد لهم عليه، إنهم يهدفون من رواء هذه الهرولة و "استفاقة الضمير" محاولة إقناعنا بالتسليم الهزيمة وترك ما أسموه "بالتأبي المصطنع" و الرجوع بالقناعات المعلنة" وهو اسراف فضيع في احتقار عقول أبناء الحركة ودعوة صريحة لحل الحركة و قرار إدانة بسوداوية وعدمية لتاريخ نضالها على مدى عقود، وتصفية وإنهاء مشروعها ووجودنا كمجموعة بعد أن نتخلى عن هذا "التأبي المصطنع" ونسلم للسلطة بغلبتها ونتسربل بذل الهزيمة ونتعامل "بعقلانية المهزومين" فنسلم أمرنا للسلطة ونرضى بما ترضاه لنا ونحن أفراد لأننا لم نعد مجموعة(...) وهو لعمري ضرب من المخاتلة التي لا تكون إلاّ من خصم ماكر أو عدو متربص. إنّ مثل هذا العمل في مآلاته – وإن اختلفت المنطلقات- هو من صنف ما قام به النقابيون الشرفاء أيام الوزير محمد المزالي، الذين انقلبوا على قيادتهم وألحقوا الاتحاد بحضيرة الحكومة والحزب الدستوري. غاب عنهم أن العودة إلى تونس لا تكون منة أو عطية يُتوسل إليها توسلا وتستجدى استجداء من أصحاب "المروءة... الذين جنبوا البلاد بقيادتهم الرشيدة مزالق (...)" كانت على أبوابها مثل ما جاء في صك الغفران لإحدى "الأخوات" التي لا تزال تقول أنها تنشط في مؤسسات الحركة! ! كيف يستطيع هؤلاء مواصلة التواجد في الحركة وهو يحمل هذه القناعات؟ نفس هذه الأخت تذكر في نفس الرسالة أنها في مهمة وطنية حيث تقول ".. أنني سعيت و لازلت أسعى، لكي ينجز الإسلاميون المراجعات و التقويمات التي تحدد مسؤولياتهم فيما جرى.." و أنها كذلك تبذل جهدا في عدم ترك الحركة للمغامرين.. (هذه الرسالة، أصبحت معتمدة داخل القنصليات لابتزاز الراغبين في المطالبة ب"حق المواطنة" و يتمنعون عن الاستقالة من الحركة.) فالعودة و الحديث عن المصالحة أيها المتهافتون، وضع لن تأتيه الدكتاتورية راضية مرضية بل صاغرة منهكة لفرط ما ارتكبته من جرائم و فظاعات تخر لهولها الجبال. فإن قٌدر أن تبرم مثل هذه المصالحة والعودة الآمنة والكريمة إلى بلادنا يوما فلن تكون بسحر شاعر أو خطبة واعظ أو تملق متذلل وإنما بفضل جهود مضنية شاقة ودؤوبة قد خاضها أهل العزم داخل البلاد وخارجها. أستطيع أن أجزم بأن هؤلاء المتهافتين لم يحضروا الندوة الأخيرة للمنظمة هيومن رايتس ووتش المنعقدة في باريس يوم الجمعة 27 مارس 2010، و التي تناولت أوضاع حقوق الإنسان في تونس عقب صدور تقريرها الأخير المعنون "تونس : سجن كبير". لو حضروها لأدركوا أن معاناة السجين المسرح تتضاعف وطأتها خارج السجن عبر الأشكال الجهنمية في الملاحقة الأمنية والرقابة الإدارية المستمرة مما يفقد حريته أي معنى. بل قد يصبح السجن أخف وطأة لأنه يرفع عن السجين مسؤولية إعالة نفسه وعياله ويعطيه معنى ساميا لوجوده كبطل وطني ومجاهد ينتظر الأجر من الله.. و لأدركوا كذلك إن بقي لهم شيئا من الإحساس ان الرجوع بهذه الطرق المخالفة لأبسط قواعد الكرامة إنما هي إمعان في تشفي الظالم في هؤلاء الأسُود والتنكيل بهم. بقي أن التساؤل يظل قائما حول طبيعة المتحمّسين لمثل هذه الهرولة و الاستفاقة المتأخرة للوجدان، عند " نهضَويِي أوسلو" فظاهرها صادر عن مجموعتين: 1- مجموعة من أبناء حركة النهضة الذين يصفّون حسابات الصراع السياسي الداخلي عبر نشرها وتصعيدها خارجيا للتميز عن الخط الأصيل والثابت للقيادة، وهم لا يدركون بأنهم يخربون بذلك بيتهم بأيديهم ويحدثون شرخا وفتنة لن يستفيد منها إلا الاستبداد في إضعاف خصم عنيد حظي ولا يزال باحترام كل الأحرار داخل البلاد وخارجها. 2- فئة قليلة من المبعدين والمبتعدين عن حركة النهضة الذين لم ينشغلوا بعمل ما ولا سلمت الحركة من أذاهم مثل { ...*} و غيرهم.... حيث صار هدفهم المعلن ليلا ونهارا هو إنهاء هذه الحركة والإجهاز عليها باستمالة العديد من القيادات البارزة في التنظيم تمهيدا للخروج منه و"العودة" بشروط إدارة الأمن سرا ودون الجهر. بدءا بالأحاديث المطوّلة داخل المكاتب المغلقة في السفارات، إلى ارسال رسائل الولاء و "مراجعة الماضي" و إلى إعلان الاستقالة والتبرؤ من الحركة و قراراتها على صفحات الواب.. ربما وسوس لهم الشيطان أن ذلك هو المدخل الوحيد والآمن لإثبات سداد رأيهم وقدراتهم السياسية الخارقة مقارنة بباقي أطراف الطيف السياسي التونسي الذي لا يرى خلاصا لبلادنا بغير رحيل نظام بن علي. لهؤلاء المتهافتين أقول: قضية أبناء الحركة: مهجرين ومحاصرين، وارثها النضالي الذي هو محل حسد خصومها هم أمانة في أعناقنا جميعا... فالنظام قد جعل منهم رهائن يبتز بهم الحركة ويقايض بحاجاتهم بقاءه في الحكم . فهل يعقل أن نهدي تضحياتهم ومعاناتهم على طبق من ذهب يلمع بها الطاغية وجهه ليؤسس لشرعية جديدة اسمها الرحمة والشفقة بعد أن سقطت عنه ورقة التوت، وهو يحاصر هؤلاء الأبطال النموذجيين ممن قضوا قرابة العقدين في السجن ويعيشون الحصار صامدين ثابتين.. وأسفاه... فنحن لا ننكر على هؤلاء النفر من " نهضَويُو أوسلو" شعورهم بهول المأساة ولكن ننكر عليهم المبالغة في ذلك الشعور اتخاذه مطية لأغراض أخرى قد تكشفها الأيام، الذين لا يجدون طريقا إلا التخلي عن أي كسب سياسي مقابل رجوعهم إلى "الوطن" السجن، و التشبع بالهزيمة والتسربل بذل المهزومين ... إذ لا صراع سياسي بعد اليوم في تونس يعيِّر فيه خصوم الإسلاميين أجيالهم اللاحقة بعار التخلي عن القيم والمبادئ والاستقالة مقابل الانتقال من السجن المجاني إلى السجن الذي يتحمل فيه السجين تكاليف الإقامة.. لا عجب أن يكون الأغلب ممن يتولى كبر هذه الدعوة من الذين يعيشون في المهاجر بعيدا عن الجمر... فليس القابضون على الجمر كما القابضين على أزرار الكمبيوتر. ولو كانوا غير ذلك لعلموا أن السجين الذي يخرج من السجن أو العائد بطريقة الخلاص الفردي المتبرئ من حركته التي رفعت شأنه بين الناس، يحتاج أن يحكي حكاية لولده الذي بلغ العشرين تكون خاتمتها مشرفة: شهادة يحملها الابن وساما على صدره أو نصرا وأقله في هذه الحالة أن يرجع أبوه من المنفى مرفوع الرأس لا يفرط في حق ولا يتخلى عن مبدإ ولا يزكي ظالما. أما أن يقول لابنه وقد انتظره السنين السنين ليحكي له الحكاية: أنه ومجموعة من الأصدقاء كانوا يشكلون حركة سياسية قبل أن يتم حلها مقابل الإفراج عنهم حاولوا أن يفرضوا الحريات في تونس فسجنتهم السلطة بذنبهم وليس ظلما ولما (رجعلنا شاهد العقل) قدمنا طلبا في العفو الإنساني مصحوبا بما طلب منا من تنازلات فمن علينا الرئيس بالسراح... فأول سؤال سيتبادر إلى ذهن ذلك الشاب هو: لماذا لم تفعلوا هذا في السنة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة ... ؟ هل كل هذه المعاناة والإذلال والقهر تذهب سدى؟ يا خيبة المسعى. * تعليق من التحرير : ذكر السيد محمد سعيد الرحالي أسماء أشخاص بذواتهم فقمنا بحذف كل الأسماء ، .ذلك أن صاحب المقال وقعّ باسم مستعار ولا يجوز نقد شخص بعينه و ذكر اسمه إلاّ لمن وقّع مقاله باسمه الحقيقي أو كان على أقل تقدير معلوما لدى إدارة الحوار نت ...