بُعيْد الصلاة ، كان الكل يسرع في الخروج من المسجد ، قليل من الناس تعرفت إليه ، أو تعرّف إليّ ، هناك الكثير من الوجوه القديمة غابت عن هذا المكان ، لكن الطاعنين في السن الذين عرفوني ،علتهم البهجة ، سلموا عليّ بحرارة وانصرفوا... وجوه جديدة شابة لم آلفها كانت تتأملني عليها سيماء التدين ، تتزيى بازياء مشرقية ، هذا المشهد بعث في أملا و تفاؤلا ... تذكرت المَلّة عندما رأيت زاويتها في الجامع ... سريعا مرّت أطياف الشباب الذين كانوا يداومون معي هناك ... مشاعري مختلطة ، خرجت من الجامع ، قصدت أول هاتف عمومي ... كان عليّ ألا أفاجأ الوالدة ، صحتها لم تعد تحتمل المفاجآت الكبرى ، أخشى عليها الإنهيار إن رأتني أمامها فجأة..فكرت في حل سريع ، فاتصلت بصهري ، ولما اعلمته كبّر فرحا ، طلبت منه أن يسرع للبيت وأن يجد طريقة ليخبر والدتي بالخبر السعيد . علمت فيما بعد أنه قدم لبيتنا ، ونادى الوالدة ليخبرها أنه سمع إشاعة تقول بأن مجموعة من( الصبغة الخاصة) قد اطلق سراحها اليوم ..سألته عن الأسماء ، أجابها بأن اسم ظافر تردد على سمعه ، لكن لا يدري بالظبط الإسم كاملا ...هنا خَرَّت مغشيا عليها ... كان المشهد محزنا جدا .. عندما نطبِّع مع الأحزان فإنه من الصعب علينا تحمل الفرح ... يكون الفرح أكبر من قدرتنا على التصديق ... أفاقت الوالدة ، صرخت في وجه صهري : لا زلت هنا ، إذهب الآن و تأكد من الخبر..أخرج.. هنا ابتسم صهري ،: اطمإني ، لقد تأكدت من الخبر ... لقد عاد ...هنا جف حلقها .. لم تسطع ان تنطق ، تسمرت بالباب ... تركته مفتوحا ..ترفض أن ترد على أيّ كان ... و بعد برهة ، سمعوها تقول : آه يا ربي ، زَعْمَ صْحيح يا وْليدي... اتصلتُ مرة أخرى ببيت صهري ، اجابتني ابنته ، قالت بأن أباها لم يعد من عندنا بعد ... طلبت منها أن تلحق به هناك وترى ما يقول ،كما طلبت منها أن تدع الخط ، خط الهاتف مفتوحا حتى تعود ... مرت دقائق ، وإذ بياسمين ترفع السماعة : ابي يقول لك ،لا بأس تعال للبيت ... رقص قلبي في صدري ، كنت متجها وعصفورة قدسية تزقزق في أذني ...أحسست بالميلاد من جديد ...لم اعد استطيع تأمل الشارع و لا المارة ...أحث الخطى ولا أشعر بالمدى ..أبتسم لوحدي ...أمشي ...أمشي ... عندما رأتني الوالدة ، قالت كلمة واحدة: ظافر ! وجلست ،بكت في صمت ، هذه اللحظة دُمغت في ذهني لتعذبني إلى الأبد..لم تحتمل الوقوف ، حقيقة لم يكن المشهد يحتمل الكلام... انحيت بكلي لأقبل شيبتها ،تلمستها ، بدت لي بقايا من عظام ناتئة ... شعرها المصبوغ بالحناء يبدي بياضا اصليا كالثغامة ... لكن روحها الشفافة بدت لي طائرة من الحب والفرح... كانت دموعي أيضا تسيل وتحتها ابتسامة عريضة ، نهضتُ ، سمية ابتني تراقبني كغريب دخل البيت ، أصبحت صبية ، امرأة ،اقتربتُ منها..أردت حملها بين يدي لاقبلها ،احسست انها ثقيلة ..بكت سمية: اشتقنا لك يا أبي... عطفت على ابني ، كان صامتا ايضا ، بدوت له كحلم بارد ، سلم علي والتصق بالحائط ... امهما تبكي ، نظرت إليها .. لقد تغيرت .. شيء من الإرهاق ، إرهاق السنين بدا عليها .. الحزن سطر ندوبه على وجهها ...لما انحيت عليها لاقبل رأسها أجهشت بالبكاء الحاد... من خصائص المجتمع في بلدي ، أنه مجتمع مفتوح ، السر فيه لا يعمر طويلا ، وهذه الطبيعة حكمت بقسوة على كل عمل أو تنظيم سريٍّ بالفشل .. مجتمع لا يناسبه إلا العمل العلني مهما كانت طبيعة هذا العمل.. ولذلك إن انكسر صحن في بيتك صباحا ، لا تستغرب أن يسألك أحد عن سبب ذلك مساء بالمقهى أو الجامع ..شخصيا ،أنا أتقبله هكذا ، عليّ أن أتكيف معه لا أن اكيفه لحسابي ..ولذلك صنع بورقيبة زعامته على انقاض رموز الحزب الدستوري القديم ، لأنه فهم السر في هذا المجتمع .. كان المشايخ في الحزب القديم ، معظمهم من النخب العائلية المغلقة ، وكان بورقيبة من عامة الناس ، فبنى فلسفته على ما اسماه ، الإتصال المباشر والمفتوح ... وكان هنا مربط الفرس... لم تمض ساعة من زمن ، إلا و بيتنا يغص بالمهنئين الصادقين ، وقدماء المساجين ، وكذلك بالمخبرين السريين... كيف سمع كل هؤلاء...كما اسلفت لك ، الافضل الا تسأل نفسك هذا السؤال، هي طبيعة مجتمعنا و السلام ... أمضيت اكثر من أسبوع على هذه الحال ، البيت لا يخلو من الزائرين المهئنين ، حتى رأيت ذلك يكفيني من رد للاعتبار كما يقال ، فكل محاولات عزلنا عن مجتمعنا تبدوا فاشلة ، وهذا هو الدليل ... غير أن المشكلة ،ليست مع الناس ... المشكلة مع النظام ، إذ رغم خنوسهم أمام هجوم الناس للتباريك ، فلم يجرؤوا على القدوم أيامها ، إلا انهم كانوا يضعون اصابعهم على الزناد ، فلم ينسوني ...