تشكل المعركة الدائرة في حلب نموذجاً ملفتاً لأزمة تطال كل وسائل الإعلام في العالم، أزمة امتدت بنسب متفاوتة خلال معظم مفاصل الحرب في سورية. هذه الأزمة التي بدأت قبل سنوات مع انفجار فقاعة الربيع العربي في عدد من الدول. كانت البداية مع تخلي زين العابدين بن على عن السلطة في تونس، ثم تنحي حسني مبارك عن السلطة في مصر، ثم قتل معمر القذافي في ليبيا بعد تحرك دولي أدى إلى إزاحته عن السلطة. شهدت تونس ومصر مسارات سياسية صعبة ووعرة، شهدت أعمال عنف، ولكنها حافظت على الدولة، بينما اختفت الدولة في ليبيا واتخذت الأمور فيها مسارات معقدة من تتراوح بين أعمال عسكرية وجهود سياسية حثيثة تهدف إلى إعادة بناء الدولة. بينما كان الأمر مختلفاً في سورية، التي حافظ فيها النظام السياسي على وجوده الكامل من ناحية البنية والمضمون، وخاض معركة شرسة ممتدة عبر الزمن ضد كل محاولات إسقاطه. وإذا عدنا إلى محور الإعلام وتعاطيه مع الأزمة في سورية، سنجد أنه يحمل كل ملامح الأزمة التي طحنت الجميع في هذا البلد. ولا بد هنا أن نشير إلى أن موافقة السلطات في سورية على السماح للجميع باستخدام كل وسائل التواصل الاجتماعي كان واحدا من القرارات الملفتة والجريئة المتخذة في بداية الأزمة، ذلك أنه لا يخفى على أحد أن وسائل التواصل الاجتماعي صارت مع بداية أحداث الربيع العربي واحدة من أهم وسائل الإعلام، تنتشر عبرها الأخبار، وتنظم من خلالها بعض التحركات، وصارت رديفاً قوياً لوسائل الإعلام التقليدية المألوفة من صحف وإذاعات وتلفزيونات، والتي بذلت مجهوداً كبيراً في نقل الحدث السوري طوال سنوات الحرب والأزمة فيها. وإذا عدنا إلى حلب كنموذج للتعاطي الإعلامي مع الحدث الذي يجري فيها، سنلمح المؤشرات التالية: 1- ملامح الاستقطاب السياسي والعسكري شديدة التعقيد، صحيح أن التصنيف التقليدي يضع وسائل الإعلام بين مؤيدة ل "نظام الأسد"، ومعارضة له، لكننا نجد الكثير من المفارقات والفروقات السياسية والأمنية بين وسائل إعلام كل طرف من أطراف التصنيفين العامين: مؤيد ومعارض، حسب تبعية كل منها لأجندة تتضارب في النظر إلى الملف السوري. 2- تضارب المعلومات كبير أيضاً، ونستطيع أن نلمس ذلك في أعداد المدنيين، والمسلحين، والمعارضين، وفي المفاوضات بين الروس والأمريكان، وفي المفاوضات الميدانية. هذا التضارب أدى إلى ارتفاع حدة الاستقطاب، وإعادته إلى مربع الأزمة الأول: هل أنت مع النظام أم ضده؟ 3- هناك حشد إعلامي محلي وإقليمي ودولي كبير، وغير مسبوق تقريباً، فيما يتعلق بالأزمة في سورية عامة، وفيما يتعلق بحلب خصوصاً، وحتى إن خبر سقوط تدمر بيد داعش مرة أخرى لم يشكل مادة مهمة رغم أهميته الميدانية في الملف السوري، ولكن للأسف لم يقم هذا الحشد الإعلامي الكبير ولو بمحاولة جادة واحدة للإجابة عن أهم الأسئلة المتعلقة بالأزمة السورية أو بحلب نفسها: ماذا سيحل بحلب بعد توحيدها كمدينة بيد السلطات في سورية؟ ماذا عن أرياف حلب؟ ماذا عن الملف السورية برمته؟ هل سنواصل العمليات العسكرية أم سنذهب إلى تسوية سياسية؟ ما هو المصير النهائي لمن غادر سورية لأسباب قاهرة؟ إذاً، رغم الحشد الإعلامي الكبير ما تزال الصورة ضبابية جداً، فيما يتعلق بمسار الأزمة، ومنتهاها. 4- يغرق الإعلام كله تقريبا في بحر من التفاصيل التي يقدمها الخبراء العسكريون، والمحللون السياسيون العاديون منهم والإستراتيجيون، التابعون ل " النظام " من روس وإيرانيين وشركاء في هذا المحور، أو المعارضون له من أمريكان وأوربيين وإسلاميين وديمقراطيين. ما يؤخذ على الإعلام والإعلاميين هنا هو انجرارهم وراء التفاصيل والأخبار الميدانية التي يعطيها لهم طرف سياسي أو أمني أو عسكري له أجندة ما وطرف يستند إليه، بمعنى آخر تحولت وسائل الإعلام كلها بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي إلى أدوات للبروبوغاندا والحرب النفسية، أكثر مما هي مصدر موثوق للخبر الذي يعتمد عليه الناس في بناء موقف. لم يعد هناك فارق أو فاصل بين وسيلة إعلام مؤيدة أو معارضة في القدرة على تغطية الحدث، لا في الحجم، ولا في المهنية، ولا في مصادر الإعلام، الفارق الأساسي الوحيد يكمن في الانتماء السياسي الحاد والمطلق للأجندات السياسية، بحيث صار الإعلام طرفاً فاعلاً في حرب لا يستطيع أحد فهم كل أبعادها بحيادية ما. كما أن تغطية الأحداث في حلب تثبت أن الإعلام لم يعد سلطة رابعة، وفق الترتيب التقليدي المعتاد، بل أصبح سلطة موازية للمستويات الثلاثة الرئيسية: السياسية، والعسكرية، والاستخباراتية، وسلاحاً من أسلحة الحرب النفسية التي يقوم بشنها كل طرف لصالحه وفي وجه عدوه. خلاصة القول: لابد من معرفة الخبر المطروح بدقة، وبغض النظر عن الرأي، أو عن الأجندات السياسية، وذلك قبل اتخاذ المواقف والبناء عليها. صحيح أن الحرب في سورية ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات، ومازالت شديدة التعقيد، إلا أن موقف الإعلام منها قد يساهم في تهدئة ملفاتها، أو في زيادة اشتعالها أكثر.