هناك حملة متصلة من النخب الحاكمة، والنخب الثقافية العلمانية، ضد أن يكون للسياسة مرجعية دينية. وتلك الحملة في الواقع تصطدم مع شيوع التدين لدى جمهور الأمة، بصورة تجعل من الدين مرجعية للحياة. ولا يمكن تصور وجود مرجعية دينية للحياة عامة، دون أن تخضع السياسة أيضا للمرجعية الدينية. فلا يمكن تنظيم الحياة من خلال المرجعية الدينية، وترك المجال السياسي الممثل للنظام العام الرسمي، بما فيه النظام الدستوري والقانوني واللوائح التنفيذية، خارج إطار المرجعية الدينية. لأن معنى هذا فرض نظام عام رسمي خارج المرجعية الدينية، ينظم سلوك الناس في الإطار القانوني والرسمي، دون اعتبار لمرجعية الدين، مما يفرض على الناس سلوكا قانونيا يتعارض مع رغبتهم في الاحتكام للدين. لهذا نرى أن الاحتكام للدين في أمور السياسة، يكون نتاجا لرغبة جمهور الأمة في الاحتكام للدين في مختلف أمور الحياة، فيصبح المرجع الأساسي لنظام الحياة عامة، هو الدين، بما في ذلك المجال السياسي، بجانب المجالات الاجتماعية والاقتصادية ومجال الأسرة، وغيرها من المجالات. ولكن الموقف العلماني يرى أن المرجعية الدينية في المجال السياسي، تؤدي إلى نتائج سلبية، حيث يرى العلمانيون أن المرجعية الدينية في الشأن السياسي هي استخدام للدين، كما أنها قيد على حرية العمل السياسي، وأيضا هي مزج بين المقدس الديني وغير المقدس السياسي. وتلك الصورة في الواقع، لا تمثل حقيقة الفكر والتوجه السياسي، الذي يستند في كل حالاته على مرجعية، ويستند أيضا على مقدس. فالتوجه السياسي الليبرالي مثلا، يستند على مرجعية فكرية، وتلك المرجعية تقوم على عدد من القيم الأساسية، وتلك القيم مصانة في التوجه الليبرالي بصورة تجعلها قيما مقدسة، أي قيم لا يمكن الخروج عليها. وأكثر من ذلك، نجد في كل الأنظمة السياسية، دستورا أساسيا يقوم عليه النظام، وذلك الدستور هو الأساس الذي لا يجب الخروج عليه. فكل التيارات السياسية مطالبة بالاحتكام للدستور، ولا يمكنها الخروج عليه. ولكن الدستور قابل للتعديل، وتلك حقيقة، ولكن يلاحظ أيضا أن الدستور لا يشمل فقط القيم الأساسية لنظام الحكم، ولكن يشمل أيضا الأسس التطبيقية لنظام الحكم، وهي قابلة للتعديل، بدون أن يكون ذلك خروجا على القيم الأساسية للدستور. وعلى سبيل المثال، تقوم الليبرالية السياسية على عدد من القيم الرئيسة، ومنها الحرية الفردية. ويمكن تطبيق الليبرالية بأكثر من طريقة، أو تغيير نظام الحكم ما بين رئاسي وبرلماني، مع بقاء التوجه الليبرالي الأساسي القائم على الحرية الفردية. وتلك القيمة، أي الحرية الفردية، تمثل مقدس التوجه السياسي الليبرالي، فإذا طالبنا بتعديل قيمة الحرية الفردية، لصالح حرية المجموع أي حرية الأمة، فنحن هنا بصدد توجه جديد يخرج عن الفكر الليبرالي، ولا يعد مجرد تعديل في القانون أو الدستور، ولكن يعتبر تغييرا لمرجعية النظام السياسي، من المرجعية الليبرالية إلى مرجعية أخرى. ويؤدي ذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن كل نظام له قيم عليا، يعد الخروج عليها خروجا على النظام بجملته. أي أن كل نظام له مرجعية، تتمثل في مجموعة قيم أساسية، وتصبح المطالبة بتغيير هذه القيم، هي مطالبة بإلغاء النظام بكامله لصالح نظام آخر. وعندما نتكلم عن المشروع الإسلامي، نقول أن مرجعيته هي مرجعية الحضارة العربية الإسلامية، وهي مرجعية الدين والحضارة. ونعني بذلك أن المشروع الحضاري الإسلامي يقوم على القيم والقواعد الأساسية للدين، وهي قيم مقدسة، ولا يجوز الخروج عليها، حيث أن الخروج عليها يعد خروجا عن المشروع الإسلامي برمته. وما نقوله عن المشروع الإسلامي، هو أيضا ما يقال عن أي مشروع أو نظام آخر. وفي الغرب مثلا، هناك العديد من التغييرات السياسية الحادثة، ولكن القيم الأساسية للنظام الغربي المعاصر، مازالت مستمرة عبر القرون الأخيرة. المشكلة إذن، ليست في وجود مقدس، أي وجود قيم عليا توافق عليها الناس، وأصبحت تمثل ثوابت نظام الحياة وثوابت النظام السياسي، ولكن المشكلة هي في نوع القيم العليا. والاختلاف بين المشروع الإسلامي، وغيره من المشاريع، هو في القيم العليا الأساسية التي يستند لها كل مشروع. وعليه يصبح الخلاف بين المشروع العلماني الغربي، والمشروع الإسلامي، هو في القيم العليا لكل مشروع، وليس في مدى ثبات واستقرار تلك القيم. نعني بهذا القول، بأن المنتمي لأي مشروع يؤمن بقيمه العليا، ويعطي لها درجة عالية من الاستمرار والثبات، وتلك القيم هي التي تشكل توجهه، والذي يكون قابلا للتطور، ولكن في ضوء هذه القيم، حتى يخرج الفرد في إيمانه بمشروع ما ويهجره، إلى مشروع آخر. والمشروع هنا يعني الإطار الفكري العام، أي المرجعية. فالمرجعية هي التي تحدد القيم المميزة لتوجهات ما، ومن داخل المرجعية الواحدة تتنوع الآراء والاتجاهات، ولكن الخروج عن هذه المرجعية، معناه الدخول في مرجعية أخرى. فلكل نظام مقدساته، وإذا كان العلماني يخشى من قواعد الدين، لأنها تمثل إطارا حاكما، فقيمة الحرية الفردية في المرجعية الليبرالية تمثل إطارا حاكما أيضا، ولا يمكن الخروج عليها. لهذا نرى أن الأخذ بالمرجعية الحضارية العربية الإسلامية، والتي تقوم على تقديس الدين، هو اختيار حضاري وسياسي، يحدد الثابت أي المقدس، مثله مثل الاختيارات الحضارية والسياسية الأخرى. والقيم الدينية العليا، لا تستغل سياسيا، مادامت تحكم السياسة وتنظمها، لأنها الإطار الأعلى المقدس، مثل القيم العليا لأي مرجعية.