في المدة الأخيرة كنت من الذين أعلنوا إستقالتهم من حركة النهضة، هذه الإستقالات أسالت كثيرا من الحبر، و لئن اختلف أصحابها بأسمائهم فمصدرها ومحتواها واحد : تخوين وتكفير و إخراج من الملّة و كل ذلك مثبت لديهم بآيات و آحاديث. لكن لا عيب فهذا حال الديمقراطية التي ندعو إليها و مآل اختلاف الرأي الذي ننشده و حلم الإسلام الذي ندّعيه. وكل هذه الردود أقل من أن يرد عليها باستثناء مقالة فتحي عبد الله الناعس و ذلك لعدّة أسباب أهمّها أن فتحي الناعس من قيادات النهضة المعروفة، و "الذي تسلّم المشعل" في المهجر. فما كتبه فتحي الناعس إمّا جادت به عبقريّته و هذا ردّ قيادي متماشي مع رأي الحركة و منسجما مع سياستها و إلاّ يكون خارجا عن التنظيم طبعا. و إمّا أن قيادته كلفته بالرد و هو بشجاعته المعهودة يتزعّم الموقف، إذن هو في كل الحالات يعبّر عن رأي حركة " ديمقراطية حتى النّخاع". في هذا الرّد على السيد الناعس أردت أن أسأله بعد هذا العيش الرغد في أوروبا و الأرغد منه في قطر هل تعلّم أن يحترم رأي غيره و هل حدّث نفسه يوما بمقولة " رأي صواب يحتمل الخطأ و رأي غيري خطأ يحتمل الصواب". لكن يبدو لي أن هذا العماء الحزبي، و هذه الدغمائية المفرطة جعلته لا يسمع إلاّ مقولة شيخه "الفاضل" "الصادق" ، بل إنّ الأمر عند السيد الناعس يتعدّى كل ذلك فيتجرّأ على كتاب الله العزيز فيطوّع آياته الكريمات في خدمة حركة النهضة فسماها "الشجرة المباركة" بل إن الله عزّ و جلّ أنزل براهينه ليصدّق مقولة "الشيخ" "الفاضل" "الصادق" "المتوكّل على اللّه". الأكيد يا سيد فتحي الناعس أنّك لم تقرأ تاريخ الأمّة الإسلاميّة و إلا ّ لعلمت أنّ مثل هذا التّوظيف لكتاب الله المقدّس، و مثل هذا التنزيل لآياته هو الذي أدّى إلى فتن و حروب مازالت الأمّة تعاني منها، فلقد كان أولى بك أيّها " الديمقراطي حتى النّخاع " أن تحيّد النصّ القرآني عن مثل هذه الإختلافات و ترتقي به فوق هذه الإعتبارات الضيّقة. و على كلّ حال أحمد اللّه أنّك لم تطوّع آيات القتل و الرجم و العقاب فأجزت فينا كلّ ذلك، و كيف لا تجيز ذلك و نحن خرجنا عن طاعتك و استقلنا من هذه "الشجرة المباركة" و أعملنا عقولنا حيث لا يجوز إعمال العقل فحركة النهضة عندك هي " الشجرة المباركة" و شيخك هو "الصّادق". لقد تمكّن السيد الناعس بعقله الراجح و ذكاؤه الفذ أن يفصل في أمر الإستقالات و أن يجد لها التفسير المبين فهي عنده " إستقالات في سطرين مملات على أصحابها من الملحق الأمني... ليتم تسليمهم جوازات سفرهم ليعودوا بها إلى بلادهم تونس". ألم تعلم يا سيد فتحي أن مثل هذه السطحية في التفكير و العجز عن مراجعة الذات هو الذي أدّى بك و ب"شجرتك المباركة" إلى هذه الإنتصارات المتتالية و هذه الفتوحات المتعاقبة كما أشكر لك اعترافك بأنّ بلدنا هو تونس و ما الذي كان يمنعك من أن تطردنا من البلاد و لربّما من بلاد المسلمين و تلغي جنسيتنا التونسية، ألم نفسد عليك نشوة "الإنتصار" و "التمكين" و "الصمود" و" الإصرار" و"الثبات" و "التشفّي"، لقد كان علينا أن نطبّل و نهلل و نمجّد و نكرّم و نعظّم. لكن إعلم أنّ الإنحناء لغير الله مذلّة، و المدح في غير أهله نقصان. إن "الرّجولة" عند خازنها فتحي الناعس هي انحناء لشيخه و الشهامة عنده تحية لهذا "الفاضل" كيف لا و 18 السنة الأخيرة ضرب فيها فتحي الناعس و حركته دروسا في الرجولة و الشجاعة و الحنكة السياسية حتى حققوا نصرا عظيما و فتحا مبينا على كل أعداءهم في الدّاخل و الخارج عربا و عجما، فيكفي السيد الناعس فخرا أنّ شيخه هو"المنظّر الأوّل و الأوحد في الدّيمقراطية و حقوق الإنسان" و "المشاركة السياسيّة"، بل لولاه لما دخلت الحركات الإسلاميّة في المشاركة السياسيّة. إنّ السيّد الناعس و ما يمثّله لا يتوارى في أن يفرض على غيره ما يريد و يمنعه من أن يكون له رأي يخالف النهضة، فيجزم بأنّها "إستقالات مزيّفة" فكأنّه لا يحقّ لنا أن نستقيل من "الشجرة المباركة" فنحن باقون رغم أنوفنا. بل إنّ السيّد فتحي و بلغة قيادي نهضوي ديمقراطيّ حتى النّخاع، و بلغة مسلم حسن خلقه يأمرنا بأن "بلّوها و اشربوا ماءها"، و جيّد أنّك كتبتها بالعاميّة حتّى يعلمها كلّ تونسي أمّي أو متعلّم و يتبيّن أنّ كلّ اختلاف في الرأي عند الناعس محفوظ بهذا القدر. هذا هو حال قيادي يدّعي الإصلاح و يتبجّح بالديمقراطية فلو كان بيده سيفا لقطع رقابنا و كل ينفق ممّا عنده. لم ينسى السيّد فتحي أن يمنّ علينا بأنّه أعطانا " شهائد ليحصلوا على اللجوء السياسي"، لكن عزيزي فتحي لعلّ الأسماء تشابهت عليك لكثرتها فجحيم حربك الخاسرة طال الجميع، أمّا أنا فما طلبت منك يوما شهادة، فما عانيناه من جرّاء سياستك و سياسة "الشجرة المباركة" كان كافيا لنا. و أضف إلى معلوماتك أيضا أنّ النهضة لم تموّل لي مشروعا و لا بنت لي أو اكترت لي مسكنا و لم تيسّر لي عقد عمل و لم تمنحني راتبا شهريّا، فاطمئن سيّد فتحي فمن هذا الباب ليس لك ما تهددني أو تتوعّدني به. إنّ الردّ على السيّد فتحي يطول فهو تمرّس لغة السبّ و التخوين فهي سياسة متّبعة مع كلّ من يخالفه الرأي حاكما أو محكوما فهذا ديدنه منذ 18 سنة. و لكنّي في الأخير أنصحه أن يخرج من هذه الدّغمائيّة و أن يحاول النّظر إلى نفسه و لحركته بشيء من التّواضع رغم كلّ الإنتصارات. و لعلّه ينتابنا بعض من الحياء عندما نقارن حركة فتحي الناعس بغيرها من الحركات الإسلاميّة، فما علمنا أنّ حركة إسلاميّة انتحرت انتحارا شنيعا كما انتحرت "الشجرة المباركة" و ما علمنا أنّ حركة سياسيّة في عالمنا العربي عانت ما عانته النهضة في تونس و رغم كلّ ذلك لم تكلّف نفسها عناء البحث في الأسباب و المسبّبات و أن تقيّم مسيرتها بعقل نقديّ . و رغم المحن و الكوارث التي أصابت حركة النهضة في تونس فإن فتحي الناعس "يفتخر بأسود الداخل و نسور تسلّموا المشعل في الخارج" و لكن أسأل السيّد فتحي من الذي تسبّب في هذه المواجهات الخاسرة و من الذي قاد الحركة إلى السجون و المهاجر، أم ان أسوده و نسوره من ذلك براء؟ إن الأحزاب بمجرد أن تخسر بعض المقاعد في البرلمان حتّى تخضع قيادتها للمحاسبة الصارمة فالقائد هو مسؤول و أبسط معاني المسؤوليّة أن يسأل عمّا خطّط و لكن هذا لا يقدر عليه من يعظّم قائده وينحني له. أنا أقدمت على الإستقالة لأنّي أملك ناصية أمري، فأنا لا أستطيع أن أكون من المطبّلين أمثالك و لا من الواثقين بحبل شيخك، و بالنسبة لي قيادة أدّت إلى مثل هذه "الإنتصارات" يجب أن تخضع للمحاسبة الصارمة. فما علمنا أن قيادة حركة سياسيّة قادت أنصارها إلى ما هو الحال عليه اليوم، أستقبلت بالتهليل و التكبير كقيادة النهضة. أنا أعتبر أنّ قيادة النهضة في الداخل و الخارج مسؤولة عمّا حدث بأشكال متعدّدة، وإنّ ما تفخر به النهضة من وحدة الصف هو عندي الخلل الحقيقي. فهي لا تستطيع إلاّ أن تكون على رأي شخص واحد لو أخطأ فالهاويّة للجميع و لو أصاب – و هذا ما لم يحدث إلى حدّ الآن- فالفضل لشخصه الكريم. هل يحق لك أن تفخر بقيادة طيلة 18 سنة لم تستطع اللإفراج عن سجين و لا ردّت مغتربا ولا فكّت حصارا عن محاصر. بل في اليوم الذي يطلق فيه سراح المساجين بعد 18 سنة سجنا لا نبشّر بواقع جديد و لا ندفع إلى طي صفحة الماضي بل نكون نذير شؤم و نقول "إنّ الداخلون للسجن أكثر من الخارجين منه"، " و من غادر السجن فإلى سجن أكبر منه". سيّد فتحي إن قصدت في مقالتك تهديدي فأنا لا أخاف التهديد، فاستقالتي حقيقيّة و ليست مزيّفة و لا مملات بل استقالة عن وعي فأنت تناقض نفسك بنفسك فقلت "وهم استقالوا منها فعليا منذ سنوات طويلة" و قلت "إنّها مزيّفة" فأيّها نصدّق يا ناعس، و لقد قلت "أنّها مملات" و لكي يصدّقك الجميع أذكر لهم أنّ المستقيل كان سجينا سابقا و هذا "مملى" و أنّه ممّن أمضوا بيانات منذ سنة 2005 تدعوا إلى طيّ صفحة الماضي و هذا أيضا "مملى"، و اليوم يعلن استقالته من النهضة و هذا طبعا "مملى". و إن كنت و من معك بردّتكم العنيفة هذه تريدون أن ترهبوا من تحدّثه نفسه بالإستقالة من "الشجرة المباركة" و التعرض لأي شيخ من شيوخك بالنقد و المساءلة فأخال أنّى جيلي و من سبقني أصبحت لهم الخبرة الكافية لتحمل مسؤوليتهم إن مع النهضة أو بعيدا عنها، فلعلنا نذكر جميعا البيانات التي صدرت في حق الذين استقالوا من حركة النهضة سنة 91 و الذين نبّهوا إلى خطورة الخطط فنالهم ما نالهم من سب و شتم و نعتوا بأنهم تخلّوا يوم الزحف, لكن أثبتت الأيّام خلاف ذلك و يبقى لهم عند ربّهم شرف أنهم لم يقودوا أحدا إلى السجون و المنافي. يؤسفني جدا انه بعد 18 سنة لا زال السيّد فتحي يتوعّد فهو يقولها صراحة "لنا عودة معكم"، فكأنما لم يكفه ما حدث و لم يستوعب الدرس فعوض أن يكون داعية سلم فلا زال داعية حرب و عوض أن يحي الأمل في النفوس و يبارك الجيد و يطلب المزيد منه فهو يثبّط العزائم و يصف دار لقمان بأنها على حالها. و تصبح تونس عنده سجن كبير فلا تصلح للدنيا و لا للدين و حتى العودة إليها أو المطالبة بجواز سفرها يصبح عند القيادي فتحي الناعس خيانة كبرى و جريمة لا تغتفر و كفرا مباح. الحبيب حواري - باريس