تزايد الحديث في العقود الأخيرة عن نمو الطاقة الشرائية للمواطن التونسي، بعلاقة مع تزايد عدد ملاكي السيارات كذلك المحلات السكنية و قد قدرت الجهات الرسمية نسبة المواطنين التونسيين الذين يمتلكون منازل خاصة بهم 80 بالمائة، ناهيك عن تحول العديد من الكماليات بمثاية ضروريات بالنسبة للمواطن، هذا التطور في الحقيقة رافقته زيادات غير منتظرة في أسعار المواد الأساسية، في ظل نسق اقتصادي و اجتماعي باتت تهدده انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية التي ألقت بظلالها على جميع الدول خاصة منها النامية، يضاف إلى ذلك تطور بطيء في الأجور..، و عليه فإن العديد من الملاحظين فسروا هذا التطور في نمط عيش التونسي والأسرة التونسية عامة ليس بارتفاع المقدرة الشرائية بل بارتفاع حجم التداين الأسري و الذي حسب الإحصائيات الرسمية لم يتعدى نسبة ال18 بالمائة من الدخل المتاح للمستهلكين رغم إقرارها بارتفاعه. في الواقع التداين أصبح ضرورة ذلك أن الدخل وحده لم يعد كافيا لتلبية مطالب الحياة الأساسية، كما لم يعد قادرا على الاستجابة لطموحات المواطن التونسي و الذي بفعل عدة عوامل أصبح يتطلع دائما لعيش أفضل رغم محدودية امكانياته المادية، هذا أيضا ما ذهب إليه السيد رابح وهو أستاذ تعليم ثانوي، يتمتع وزوجته المربية أيضا بدخل شهري محترم لكن ذلك لم يمنعهما من الانخراط بقوة في دوامة التداين فإضافة لقرض السيارة وقرض السكن فإنهما يقومان بشراء بعض مستلزمات البيت بنظام التقسيط "المريح"، وقد أكد السيد رابح أنه يقوم في كل مرة باقتراض مبلغ هام من البنك ليستخلص ما عليه من ديون ثم يعود ليقتني أشياء اخرى ومرة أخرى يعود للبنك لاقتراض مبلغ آخر وهكذا دواليك.. أما السيد عاطف موظف تزوج حديثا بعدما تحصل على قرض بنكي لهذا الغرض، فيتخذ موقفا مخالفا من ذلك فهو لا يقبل أن يحمل نفسه ودخله الشهري أكثر من طاقته ويفضل الالتزام بقرض فقط من البنك وبعد استخلاصه يفكر في آخر طبعا حسب الأولويات، مع العمل دائما على حد قوله ألا يعصف ذلك بتوازنات أسرته المالية، خاصة وأن زوجته مازالت تنتظر فرصة عمل كغيرها من آلاف المتخرجين من الجامعة التونسية. ولا يشذ رأي السيد منصف وهو موظف عن رأي العديد من نظرائه، كما يعتبر أن القروض العقارية تمثل أهم أنواع الاقتراض الأسري من البنوك، فهو يقوم منذ 13 سنة من تحصله على سكن من إحدى الشركات العقارية بسداد قرض سكني، علاوة على تحصله من فترة لأخرى على قروض صغرى لاستكمال بناء الطابق العلوي، بعد أن قام باكتراء السفلي منه ليحسن ظروف عيشه على حد قوله لاسيما وان زوجته لا تعمل خارج المنزل، و يعود السيد منصف ليوضح ان المنزل لا يعتبر في الواقع ملكه حتى يتم تسديد القرض بالكامل، وهذا حال السواد الأعظم من التونسيين ممن يمتلكون محلات سكنية.. إذا من الدوافع الرئيسة التي تحث التونسي على الاقتراض مصاريف الزواج إضافة إلى الرغبة في امتلاك سيارة ومحل سكن، وتعتبر البنوك المصدر الأساسي للتداين الأسري، غير أن خدماتها موجهة إلى فئة معينة دون غيرها، إذ الاقتراض منها يخضع لآليات و نواميس مضبوطة منها الترسيم في العمل كذلك حجم الدخل. في حين مسألة التداين تمس معظم الأسر التونسية تقريبا بقطع النظر عن طبيعة عمل أفرادها، و عليه لا يمكن التقليل من أهمية مصادر الاقتراض الأخرى و التي في كل مرة تظهر لها أشكال جديدة، تهدف في النهاية إلى تكبيل المواطن بالديون أحيانا دون أن يشعر. على هذا الصعيد تعتبر السيدة خديجة أن الحديث عن التداين بمثابة رش ملح على جرح غائر، فهي ربة بيت حالتها الصحية لا تسمح لها بالعمل بالمنازل أو بأحد الحقول الزراعية وهما العملان الوحيدان المتوفران للنساء بالمنطقة الريفية التي تقطن بها، زوجها عامل يومي لذلك لا يستطيعا مجابهة مصاريف البيت بما في ذلك مصاريف دراسة طفليهما، مع سداد معلوم الماء و فواتير الكهرباء، دون اللجوء للتداين من محل العطرية القريب منهم كذلك من الخضار وغيره و الذين عادة ما يمتنعون عن بيع بعض السلع "بالكريدي" خوفا من أن يعصف تعاظم حجم الديون بميزانياتهم. اعمل موظفة وبحكم طبيعة عملي التي تتطلب المظهر اللائق مع أني مسؤولة ماديا عن والدي، فإن جزء كبير من مرتبي الشهري يذهب في استخلاص الديون لصاحبة محل الحلاقة و الخياطة إضافة إلى محل بيع الملابس الجاهزة هذا فضلا عن مصاريف البيت، حتى أني أجلت لسنوات إمكانية الحصول على قرض لشراء سيارة و التي أصبحت ضرورة في أيامنا هذه..و الكلام للآنسة علياء. في واقع الأمر التداين لا يختص به مجتمعنا التونسي بل هو جزء من آليات العيش في كنف أي مجتمع يحكمه النمط الرأسمالي وتحتل فيه البنوك موقع متقدما في تحريك دواليب الاقتصاد و تطوير مستويات الاستهلاك، و بقدر ما يحقق هذا النمط من ايجابيات في مجال التشجيع على الاستهلاك فإنه يخلق على المدى المتوسط و البعيد مصاعب جمة من شأنها ان تثقل كاهل الأسرة و ترهن مستقبل بعض الفئات و الأفراد على مدى العمر كله..و لهذا نأمل أن يعمل المولود الجديد وهو المعهد الوطني للاستهلاك من خلال الدراسات التي من المؤمل أن يقوم بها حول أنماط الاستهلاك و نوعيتها بالنسبة للأسر التونسية، أن يعمل على ترشيد الاستهلاك و توعية المواطن و ترسيخ الثقافة الاستهلاكية في وعيه، بالاضافة إلى ضرورة تربية المواطن على عقلية الادخار بدلا من التداين فاليد العليا أفضل دائما من اليد السفلى. صحيفة الوحدة الأسبوعية -