وضعت الحرب السادسة بين لبنان المقاوم واسرائيل أوزارها القتالية ,لتفتح الباب على مصراعيه كما هو متوقع أمام حرب ديبلوماسية وسياسية لاتقل خطورة وألغاما عن الحرب الحقيقية. اللافت للنظر حقا أن الدولة العبرية لم تتوان برغم اعلانات الانتصار الصادرة عن كل طرف والدمار الهائل الذي لحق بلبنان وشعبه وكائناته الحية وبيئته الجميلة عن الاعتراف بوجود أخطاء عسكرية كبيرة تخللت حرب الأسابيع الخمسة ,وهو مادعى القادة السياسيين والعسكريين فيها الى تشكيل لجان تقصي حقائق تحدد المسؤولية عن كثير من الاخفاقات والخسائر التي لحقت بقوات النخبة والجيش الذي لايقهر ,ومن ثمة تقديم علاجات ووقايات لها في الجولات القادمة من الحروب التي تنتظر المنطقة. العقل العلمي والتقويمي لم يكن بعيدا عن معالجة مخلفات الحرب على الاستراتيجيات العسكرية والسياسية وربما التكنولوجية في أي حرب قادمة,وليس يعني هذا اطلاقا التغافل عن لاأخلاقية مثل هذه الحروب ومن وقف وراءها من أجل تمرير مشاريع تمس أمن واستقرار العالم كما تمس في مقتل شعارات الحرية والدمقرطة في منطقة طالما تعطشت شعوبها لقطار الاصلاح السياسي الحقيقي وعرس الانتخابات التمثيلية بعيدا عن ارادة المخادعة والتزييف والتمطيط في عمر أنظمة شمولية. بلا شك خسرت الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات الأساسية بهذه الحرب خسارة لايمكن وصفها بعد أن تأمل الشرق من الادارة الأمريكية تحقيقا وتمكينا لشعارات الاصلاح والدمقرطة في اطار ماسمي بمشروع الشرق الأوسط الكبير. لقد انهار الشرق الأوسط الكبير هذه المرة لفائدة الشرق الأوسط الجديد في ظرف زمني لم يتعد الثلاث سنوات تحديدا,لنصبح هذه الأيام أمام حديث عجيب وغريب عن ارادة سياسية لاعادة تقسيم المنطقة ومن ثمة العالم... الشرق الأوسط الجديد تعطلت معالمه الأولية بانكسار الطموحات العسكرية الاسرائيلية بعد محصلات أولى للمواجهة على أرض لبنان,غير أن ماتعمل اليوم على اتمامه أو تمريره الالة الديبلوماسية لايقل خطورة أو شأوا عما يراد بكثير من بلدان الطوق أو المواجهة كما يصطلح عليها البعض... وضعت المواجهة العسكرية وزرها ليضع القرار 1701 المنطقة والعرب وربما العالم بأسره أمام سلم هش وذلك في ضوء مايحمله هذا القرار من املاءات واكراهات على الطرف اللبناني كما الأطراف الحليفة التي تصنف تحت مسمى قوى الممانعة-سوريا وايران-. غير أن طبيعة هذا الصراع العربي الاسرائيلي والذي يشكل بؤرة أكبر مواجهات وصراعات العالم منذ بدايات القرن الماضي,تقتضي منا الابتعاد عن حديث من الخاسر ومن المنتصر كما هو جار منذ مدة على ألسنة أبرز الكتاب والاعلاميين والمفكرين,لننتقل الى طور عقلاني جديد يحتم علينا النظر الى الأمور بمنطق واتزان وحكمة بالغين لايقلان خطورة وأهمية عن اعتراف نصر الله نفسه بحجم مالحق لبنان من خراب ودمار بعد عملية اختطاف الجنديين... نحن حينئذ أمام تحدي خطير يمكن تسميته بضرورات عقلنة السلم وذلك من أجل تجنب مخاطر وكوارث أي حرب تتهدد المنطقة والعالم ,ومن ثمة فانه يتحتم على العرب جميعا تشكيل لجان تقصي الحقائق وكذلك مراكز البحوث الاستراتيجية من أجل اعادة تشكيل العقل السياسي العربي بما يجنب البلاد العربية والاسلامية وبالتالي القرية الكونية حروبا قد تبدو في ظاهرها انتصارات عسكرية ولكن قد تحمل معها بدايات رياح سموم قد تهدد سيادات أكثر من بلد عربي واسلامي نطمح الى أن نراه يشق طريقا أعظم وأثبت على دروب التمكن والانتصار العلمي والرقي التقني والثبات المؤسسي والاصلاح السياسي الشامل من أجل خوض غمار التحديات القادمة بروح انتصارية حقيقية تؤهلنا الى دخول العالم من أبواب التوازن العام وليس الانهيار الشامل. أكبر الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه الحرب أن تجريد المجتمعات المدنية من قوتها وفعاليتها يعد خطوة أولى على طريق الهزيمة الحضارية ومن ثمة كل أنواع الهزائم بما في ذلك الهزيمة العسكرية,حيث ان انهيار انظمة أفغانستان والعراق حدث في ظل أنظمة شمولية في حين أن صمود لبنان وشعبه و"انتصاراتهم" الجزئية تحققت في ظل أكبر ديمقراطية عربية في ظل أقل الكثافات الديمغرافية العربية والاسلامية . انسحبت مصر من دائرة الصراع بعد اتفاقية كام ديفيد بهزيمة نفسية شعبية في ظل أكبر كثافة سكانية عربية في جو غياب حقيقي لنظام سياسي يمثل ارادة شعبية جماهيرية تعكس موقع مصر وعراقتها التاريخية الحضارية,ومن ثمة فقد حن لمبارك أن يطلق من التصريحات أثناء الحرب السادسة ما جعل النخبة المصرية تطرح نقاط استفهام على دواعيه الوطنية في ذلك ان وجدت. انكفأت السعودية وهي التي غدت تعاني بشكل واضح من اثار تقزم أدوارها الاقليمية في ظل الزحف الايراني والفرملة الأمريكية,وذلك في ظل توظيف دولي واضح لغياب مؤسسات المجتمع المدني عن لعب دور فاعل في عقلنة السياسات الخارجية لفائدة مصالح المنطقة وانتمائاتها الشرقية وعراقتها الحضارية. أما الأردن فقد تقلصت لديه قدرات الصمود والمواجهة في ظل بدايات تفكيك تجربته الديمقراطية والتربص الواضح بأكبر القوى السياسية المشكلة لعمقه الجماهيري,حيث غدت تجربة جبهة العمل والنقابات والمشاركة البرلمانية الواسعة والفاعلة تشهد تهديدا واضحا من قبل القوى المحافظة في مواقع القرار الداخلي وربما الدولي . نحن حينئذ أمام ضعف حقيقي يعتري المجتمعات المدنية كلما تقدمت ارادة المواجهة والاحتلال الترابي والتقويض السيادي أكثر في مساحات المنطقة,وبالتالي فان مراهنة المستقبل في أي مواجهة جديدة لابد أن ترتكز على اعادة الروح للفضاء السياسي العادل في اطار توسيع دائرة المشاركة والقرار ضمن دائرة دولة القانون والمؤسسات والحكم الرشيد. الحكم الرشيد هو جوهر وبيت القصيد وهو سر عجز أنظمة المنطقة العربية,حيث أن تفشي الفساد والاستبداد ساهم في فسح الطريق واسعا أمام طموحات الالتهام والتوسع والاحتلال المباشر وغير المباشر,واذا أردنا اليوم حقا عقلنة السلم الظاهر تجنبا لأي هزيمة عسكرية أو طموحات توسعية جديدة فان الدواء والوقاية يكمنان بلاشك في اعادة الروح الى الابداع الشعبي على مختلف الواجهات وذلك عبر رفع وصاية الدولة على هوامش حركة المجتمع الأهلي ومساحات فعله اليومي ,مما يمهد الطريق واسعا أمام روح فاعلة تعيد الاعتبار الى روح المقاومة المدنية على مختلف الواجات السياسية والعلمية والتقنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ... تبقى ملاحظة أخيرة هامة موجهة الى حركات الاسلام الاصلاحي الشامل ,وهي أن اعادة النظر في أولويات المواجهة وطبيعة الصراع مع الأنظمة لابد أن تخضع للمماحكة والتحقيق من أجل توسيع مجالات التقارب والانفتاح على الرسميين وذلك من أجل تكتيل قوى الداخل في مواجهة قوى الخارج المتربصة بالجميع أمام ماتسيله ثروات وقدرات المنطقة بوجه عام من لعاب سياسي كبير لايمكن الحد من سيلانه في ظل الحجم الضخم للانقسامات السياسية والايديولوجية التي تشق النخب العربية الرسمية وغير الرسمية. ومن باب أولى وأحرى في الوضوح الموجه الى هذه الحركات الاصلاحية الاسلامية,أن تجسير الهوة بين العلماني والاسلامي في اطار الصالح العام المشترك والاستراتيجي يمكن أن يكون جسرا قويا من أجل وضع حد لحالة الصراع المفتوح بين الحكومات وهذه الحركات,هذا الصراع الذي ذهبت من ورائه أوطان وضاعت من جرائه أجيال وأوقات وأهدرت في ظله مصالح أمة باتت لا تحتمل مزيدا من التمزق والانقسام. *كاتب واعلامي تونسي : [email protected]