الاستطلاعات تتفق على ان حركة النهضة التي يتزعمها السيد راشد الغنوشي تتصدر كافة الأحزاب والقوى المشاركة بنسبة لا تقل عن 20 في المئة، وإن كانت بعض التوقعات تعطيها نسبة تزيد عن 30 في المئة. ولا يبدو الأمر غريباً بالنسبة لهذه الحركة الإسلامية التي تعرضت للاضطهاد الشديد في عهد بن علي ينتظر التونسيون ومعهم الدول العربية وبعض القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، النتائج التي ستؤول إليها انتخابات الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. ففي هذا اليوم ستكون تونس على موعد مع انتخابات هي الأولى من نوعها في هذا البلد لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي الذي سيتولى وضع دستور جديد، فضلاً عن اختيار حكومة مؤقتة جديدة وكذلك رئيس مؤقت لإدارة البلاد، خلال الفترة الانتقالية الجديدة التي ستمتد إلى حين انتخاب مجلس نيابي ورئيس جديد. فنتائج المجلس التأسيسي ستبيّن بوضوح حجم كل ثورة من القوى السياسية الموجودة على الساحة التونسية، كما ستشير إلى طبيعة القوة او الفئة التي ستكون لها الكلمة العليا والمسموعة في إدارة دفة الحكم في المرحلة المقبلة، وهو أمر في غاية الاهمية ليس بالنسبة للداخل التونسي فقط بل للخارج أيضاً، وإن كان ذلك لا يمنع من القول ان أي تغيير جدي لن يحدث في الفترة الانتقالية المقبلة، بل انه إذا كان ذلك التغيير لا برمته فإنه لن يتم إلا في ظل السلطة التي ستنبثق عن الانتخابات الرئاسية والنيابية المقرر لها ان تجري عام 2012. وانسجاماً مع هذا السياق فإنه لا يتوقع، وفقاً للدلائل المتوفرة، حدوث تغيير جوهري يذكر في التركيبة التي تتولى، بالتشاور والتنسيق مع قوى اخرى عديدة، ادارة شؤون تونس في الوقت الحاضر، وإن كان ذلك لا يحول دون القول بأن كافة الاحتمالات، تبقى مع ذلك مفتوحة. فالسيد فؤاد المبزع، الذي كان رئيساً لمجلس النواب في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، واسندت إليه مهام الرئاسة بصورة مؤقتة منذ اضطرار هذا الأخير إلى مغادرة البلاد في 14 كانون الثاني/ يناير الماضي نتيجة الثورة الشعبية التي اطاحت نظام حكمه، يتمتع بتأييد معظم القوى السياسية في البلاد وبخاصة الاساسية منها، حيث انه بحكم موقعه السابق لم يكن له أي دور فعلي في ادارة شؤون الدولة، كما انه ومنذ تاريخ توليه الرئاسة بصفة مؤقتة حتى الآن لم يدخل في أي صراع مع احد، بل انه ابدى حرصاً كبيراً على ان يكون رجلاً توافقياً يعمل لمسايرة الجميع ويسعى بالتالي لكي يرضى عنه الجميع. أما الوزير الأول السيد الباجي قائد السبسي، الذي هو بمثابة رئيس الوزراء، فقد فرض نفسه بقوة على الساحة السياسية التونسية منذ ان خلف السيد محمد الغنوشي الذي كان يشغل هذا المنصب خلال فترة حكم بن علي، واستمر فيه بصورة مؤقتة لبضعة أسابيع بعد انتصار الثورة، إلى ان اضطر للاستقالة تحت ضغط الشارع الذي لم يستطع ان «يهضم» وجود رمز كبير من رموز النظام السابق في موقع رئاسة الوزراء، بالرغم من محاولات البعض السعي لتزيين صورته بالقول انه رجل كفوء على الصعيدين الاقتصادي والاداري وانه كان كالزوج المخدوع، آخر العالمين بما كان يجري من فساد وظلم وقهر في عهد بن علي، لأنه كان من «التكنوقراط»، ويهتم بعمله فقط! ولمعرفة مصدر قوة السيد السبسي يكفي ان نشير إلى انه رجل مخضرم. فهو في أواسط الثمانينيات من العمر ويفتخر بأنه يعيش حياة بسيطة ولا يمتلك شيئاً يذكر بالرغم من انه تولى مناصب رفيعة في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، اول رئيس لتونس بعد الاستقلال، حيث عمل لسنوات عديدة وزيراً للداخلية والدفاع والخارجية، كما تولى منصب رئيس مجلس النواب لفترة وجيزة في بداية التغيير الذي قاده بن علي ضد بو رقيبة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1987، إلى ان غادر هذا المنصب ليتقاعد اختيارياً او على الأصح إلزامياً في منزله بسبب عدم قدرته على التناغم مع بن علي وتحولات عهده. وقد تم التوافق على السبسي من قبل معظم القوى السياسية فضلاً عن مؤسسة الجيش، التي ينظر إليها الجميع الآن باحترام كبير ويعتبرونها درع الوطن بالنظر للدور الحاسم الذي قامت به خلال الثورة، حيث رفضت بحزم طلب الرئيس بن علي بالتصدي لأبناء الشعب الذين كانوا ينظمون التظاهرات السلمية المطالبة بإسقاط النظام، ويسقط منهم العشرات بين قتيل وجريح برصاص قوات الأمن، وهذا الموقف الحازم للجيش هو الذي جعل بن علي يقتنع بمغادرة البلاد بعدما خشي ان تصل جموع المتظاهرين إلى قصره ولا يجد من يدافع عنه. ومع ان السبسي دخل، بحكم منصبه، في صراعات و«مناكفات» مع بعض القوى ذات الميول المختلفة والمصالح المتضاربة أحياناً، وتعرض أكثر من مرة للمطالبة بالتنحي الا انه عرف حتى الآن كيف يبعد نفسه وسفينة حكومته عن الأنواء العاتية، ويلزم الجميع بالاقتناع بأن لا بديل عنه في الوقت الحاضر، وبأن مصلحة البلاد تقتضي بأن يبقى في السلطة، ليس في هذه الفترة الانتقالية فقط بل أيضاً في الفترة الانتقالية الثانية التي ستبدأ بعد انتخاب المجلس التأسيسي. فقد اصبح وجوده يشكل في نظر الكثيرين رمزاً لوجود الدولة والسلطة، ويبدو من الواضح ان السبسي لا يحظى فقط بدعم قوي من المؤسسة العسكرية، بل أيضاً، وهذا هو المهم، من قطاع واسع من الرأي العام التونسي الذي بات يبدي قلقاً صريحاً من تنامي مظاهر الفوضى التي بدأت تشهدها البلاد منذ انهيار النظام السابق نتيجة ما اصاب الأجهزة الأمنية اثناء الثورة وما بعدها، وما يؤدي إليه ذلك من أضرار يعتد بها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي نتيجة تراجع معدلات السياحة والاستثمار وتزايد نسبة البطالة والجريمة. وقد يبدو غريباً للبعض ان تتكون قناعة لدى قطاع واسع من الرأي العام التونسي بضرورة اللجوء إلى الحزم لضبط الأمور، بعد ان وقف الشعب التونسي بأكثريته الساحقة إلى جانب الثورة التي قامت أساساً ضد الظلم والاستبداد والفساد، ولكن تفسير ذلك موجود: الشعب لا يريد الاستبداد ولا يقبل به ولكنه، وفي الوقت ذاته، لا يريد الفوضى ولا يقبل بها. ولكن هذه المراوحة بين الحزم والفوضى ستبقى قائمة، كما يقدر المتابعون للشأن التونسي لمدة عام آخر على الأقل، أي إلى ما بعد انتخاب الرئيس الجديد والمجلس النيابي وقيام حكومة مستندة إلى ثقة الشعب وغير مطعون في صحة تمثيلها واحتلالها لموقع المسؤولية، وإن كان المتفائلون يتوقعون ان تتحسن الأمور بنسبة كبيرة بعد انتخاب المجلس التأسيسي ومعرفة كل طرف حجمه الحقيقي، وكذلك معرفة الرأي العام لحجم كل طرف ونسبة تمثيله للشعب التونسي. وهذه الأحجام هي حديث الساعة الآن في كل مكان ترتاده في تونس، ومع انه لا يمكن التنبؤ بنسب دقيقة لحجم القوى الأساسية، الا ان ما جرى من استطلاعات للرأي حتى الآن من مؤسسات تتمتع بالصدقية إلى حد ما، يعطي تصوراً أولياً للنتائج المتوقعة لانتخابات المجلس التأسيسي، التي ستشارك فيها أحزاب عديدة، علماً ان عدد الأحزاب التي حصلت على الترخيص القانوني بلغ حتى الآن أكثر من مئة حزب. إن هذه الاستطلاعات تتفق على ان حركة النهضة التي يتزعمها السيد راشد الغنوشي تتصدر كافة الأحزاب والقوى المشاركة بنسبة لا تقل عن 20 في المئة، وإن كانت بعض التوقعات تعطيها نسبة تزيد عن 30 في المئة. ولا يبدو الأمر غريباً بالنسبة لهذه الحركة الإسلامية التي تعرضت للاضطهاد الشديد في عهد بن علي الذي أصدر على زعيمها راشد الغنوشي حكماً بالإعدام. وقد عاش الغنوشي سنوات طويلة في المنفى بلندن، كما تشتت معاونوه وأنصاره في العواصم والمدن الأوروبية المختلفة، في حين كانت السجون التونسية تكتظ بكثيرين آخرين، حيث كانوا يتعرضون لأبشع أنواع المعاملة. وقد عاد الغنوشي بعد نجاح الثورة ليلقى استقبالاً حافلاً من أنصاره ومؤيديه، ثم ليحصل على التأشيرة القانونية لحركته التي لطالما عانت الحظر. ويلي «حركة النهضة» في الترتيب، طبقاً للاستطلاعات المذكورة، الحزب الديموقراطي التقدمي بزعامة السيد أحمد نجيب الشابي الذي يقدر له ان يحصل على نسبة 10 في المئة من الأصوات. ويتمتع السيد الشابي، الذي له باع طويل في مواجهة نظام بن علي، بتأييد فئة من المستقلين ورجال الأعمال الذين يعتبرون ان بإمكانه قيادة مسيرة التحول الديموقراطي بشكل سلسل واعتماد سياسة الاعتدال التي ترضي الجميع بعيداً عن أي تطرف سياسي او ديني. وهناك أيضاً حزب التكتل الديموقراطي من أجل العمل والحرية بقيادة السيد مصطفى بن جعفر، الذي ترشحه الاستطلاعات لاحتلال الموقع الثالث بنسبة تصل إلى حدود 8 في المئة، وتليه حركة التجديد بزعامة السيد أحمد ابراهيم، ويمكن اعتبارها «نسخة منقحة» للحزب الشيوعي الذي كان قائماً في السابق، ونسبة مؤيديها تصل إلى حدود 4 في المئة. ويبقى «حزب المؤتمر من أجل الجمهورية»، بزعامة الدكتور المنصف المرزوقي الذي عانى بدوره من أهوال القمع والمنفى، ويحتل الموقع الخامس بنسبة تصل إلى نحو 3 في المئة. وهناك شخصية جديدة برزت بقوة مؤخراً على الصعيدين المالي والإعلامي. فقد استفاق التونسيون فجأة على دفق مالي وإعلامي مصدره السيد سليم الرياحي الذي أسس «حزب الاتحاد الوطني الحر». والسيد الرياصي شاب في مقتبل العمر يمتلك ثروة طائلة مصدرها المشاريع والأعمال التي كان ينفذها في ليبيا خلال فترة حكم القذافي، وهناك تساؤلات كثيرة في الأوساط التونسية عن الجهة الإقليمية او الدولية التي توفر له كل هذا الدعم والتمويل، والذي لن يوفر له على ما يبدو فرص ما يطمح إليه. يبقى ان نشير إلى ما حل بالطرف الآخر، وحظوظه في المرحلة السياسية المقبلة، ونعني به التجمع الدستوري الديموقراطي، الذي كان الحزب الحاكم في عهد بن علي وجرى حله بعد قيام الثورة. والواقع ان هناك حزبين جديدين قاما على انقاض الحزب السابق: الأول هو «حزب المبادرة» بزعامة السيد كمال مرجان الذي كان آخر وزير للخارجية في عهد بن علي، والثاني هو «حزب الوطن» بزعامة السيد محمد جفام الذي شغل مناصب قيادية عدة في ذلك العهد ثم جرى إبعاده في السنوات الأخيرة لحكم بن علي، وهذان الحزبان يعملان على إعادة تجميع الصفوف. ولكن المآسي التي سببها نظام بن علي لعموم الشعب التونسي تجعل من الصعب عليهما احتلال موقع ذي شأن في الخريطة السياسية التونسية، اقله في السنوات العشر المقبلة. والسؤال الآن هو: تونس إلى أين؟ بالرغم من كل ما تعانيه تونس الآن من تنافس وصراعات وبعض الفلتان إلا ان كل مراقب خبير بالأوضاع التونسية، يدرك ان تونس تسير بالتأكيد على طريق الاستقرار، وان المخاض الذي تشهده هو الذي سيقود إلى الاستقرار المطلوب، ولكن على أسس جديدة تختلف تماماً عن الأسس التي كانت قائمة في العهد السابق، او حتى في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لقد شكلت الثورة منذ انطلاقتها مفاجأة كبيرة للكثيرين داخلياً وخارجياً وفي مقدمتهم الولاياتالمتحدة والغرب عموماً. فقد كانت الثقة كبيرة بالرئيس بن علي ونظامه. ولم يدرْ في خلد أحد ان هذا النظام البوليسي المتماسك والمتين يمكن ان يهتز في هذا الوقت وبهذه السرعة او السهولة، ولكن ما حصل قد حصل ولذلك فقد بدأ العمل بسرعة لاستيعاب الصدمة او الهزة، وجعل الثورة تبقى في الحدود المعقولة والإطار الذي يمكن الإحاطة به. ويمكن القول انه تم تسجيل نجاح لا بأس به على هذا الصعيد، وما يساعد على ذلك ان الجيش الذي يشكل اكبر قوة منظمة في البلاد لديه خطوط مرسومة لا يسمح لأحد بأن يتجاوزها، وقد أوضحها لكافة الأطراف بوسائله الخاصة. كما ان من العوامل المهمة أيضاً في هذا المجال ان التيار الإسلامي الذي تمثله حركة النهضة لا يختلف كثيراً في قناعاته وبرامجه عن التيار الإسلامي المنتشر حالياً في دول عديدة، وهو المتسم بنزعة الاعتدال، ويعبر عنه خير تعبير حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا. وفي ظل وضع كهذا لا يعود من الصعب على حركة النهضة ان تحتل موقعاً متقدماً في السلطة، من دون ان يؤدي ذلك إلى مواجهة مكشوفة مع الولاياتالمتحدة وحليفاتها. ومثل هذا الأمر يتيح قيام تحالف بين الأطراف الأساسية الفاعلة وإقامة حكم ائتلافي يكون مقبولاً من غالبية الرأي العام التونسي، ويلقى الدعم والتأييد من الدول الغربية طالما انه سيحافظ على علاقة تونس التقليدية مع الغرب ويحارب قوى التطرف، المتمثلة الآن أساساً بتنظيم القاعدة. ومثل هذا الحكم سيكون على علاقة وثيقة أيضاً بجيرانه، وخاصة ليبيا ما بعد القذافي التي تحظى ب«رعاية» غربية غير محدودة. المصدر : صحيفة السفير اللبنانية 30/09/2011 العدد: 12000