بين الداخل والخارج يظل الوضع السياسي التونسي مستقرا إلى حد كبير ويبقى مستقبله ملتبسا إلى حد أكبر. فالبلد على ما يبدو عبارة عن جزيرة من الأمن والاستقرار في بحر من القلاقل والاضطرابات والزلازل الجيوستراتيجية الحبلى بتطورات عميقة في السياسة الدولية. أمن مستتب ونظام يمسك بكل خيوط اللعبة، يراقب كل شيء ويتحكم في الصغيرة والكبيرة، يحصي أنفاس خصومه ويتحرك شرقا وغربا للتضييق عليهم وتوسيع دائرة أصدقائه، كما هو قانون الحرب دائما. ذلك هو على الأقل المشهد المرئي والصورة التي تسوق إعلاميا، داخل البلاد وخارجها، فهل هي الحقيقة فعلا وما هي آفاق تطوره مستقبلا ؟ لا نختلف طبعا إذا انطلقنا من بديهية علمية، تؤكدها العلوم السياسية، مفادها أن الحقيقة في الأنظمة الدكتاتورية هي أول الضحايا. معنى ذلك أن المعطيات والتقارير والأرقام التي تروجها مجانبة للواقع في أغلب الأحيان وأنه عادة ما يتم تضخيمها أو تحجيمها أو ابتكارها أو نسيانها حسب استحقاقات حفظ النظام والاستقرار داخليا ومتطلبات تدفق الدعم والحماية خارجيا. في مقابل ذلك، يتجه سلوك الخصوم، ربما غريزيا، إلى تسفيه تلك المعطيات والأرقام وإدراجها في خانة الدعاية السياسية الهادفة للإيهام بنجاعة عمليّة للنظام القائم تحجب وتعوض شرعيته السياسية المفقودة. وبين تقارير الدكتاتورية وبيانات المعارضة وتحاليلها عادة ما تضيع الحقيقة ويزداد الواقع إبهاما وفهمه تعقيدا تاركا الجميع في حيرة وانتظار ليوم كشف الحساب. وفيما يتعلق بالأوضاع التونسية فإن قانون التدافع هذا يجد فاعلية وحضورا نموذجيين. يتجلى ذلك في المسألتين الاقتصادية والاجتماعية حيث يسعى نظام الحكم جاهدا، منذ انقلابه في 7/11/1987، إلى إبراز إنجازاته التاريخية في حين تفندها المعارضة وتعتبرها أكاذيب وتضليلات للرأي العام بهدف تأجيل الديمقراطية. تركيز النظام التونسي على هاتين المسألتين مردّه قيام شرعية حكمه على عنصري الأمن والرفاه. ولئن كان الأول يسير المنال ولا يحتاج لغير مضاعفة أعداد أعوان القمع، فإن الثاني، أي الرفاه المادي، يتطلب جهدا مضاعفا وآلة إعلامية ضخمة للإقناع بتحققه في واقع الناس خصوصا مع الغلاء الفاحش في الأسعار وانهيار القدرة الشرائية لدى غالبيتهم. لقد تحول "رغد العيش وفرحة الحياة" إلى إيديولوجيا رسمية تحجب حقيقة انتشار البؤس والبطالة وانهيار الأخلاق وتفشي الجريمة وظواهر الانتحار والهجرة الدموية. المحصلة هي خيلاء ووهم بالاستقرار من جانب النظام بسبب احتكاره لل"قول الرسمي" والحقيقة "العلمية" المختومة من المؤسسات الرسمية والمنظمات العالمية (انظر التقرير السنوي الأخير للمنتدى الاقتصادي العالمي وانتشاء المطبلين بالمرتبة الثلاثين لتونس زين العابدين)، وخيبة ومرارة من جانب المعارضة نتيجة عجزها عن إثبات العكس وفقدانها لوسائل الاتصال الجماهيري المباشر من أجل التعرية والفضح. وبالرغم من توفر فضاءات إعلامية موازية فإنها تظل افتراضية ولا تساهم إلا بقدر ضئيل في تشكيل وعي خارج النسق الرسمي. مقاربتنا للأمور ينبغي أن تكون إذن أعمق من مجرد سجال إعلامي، الطرف الرابح فيه قطعا هو الأقوى الذي يسيطر على فضائي السمع والبصر. وبين هذا وذاك تبقى الحقائق ضائعة والنظام مستقرا والمعارضة حائرة والشعب منتظرا لقيام ساعة الحقيقة مكتفيا بمتابعة ال التلفزية والإشاعات التي أضحت المنتوج الوطني الأكثر رواجا. هذه هي الحقيقة الساطعة التي لن تمنعنا من محاولة استشراف معالم المستقبل القريب للوضع السياسي التونسي: الرؤية المستقبلية هي تلك التي تنطلق من قراءة الواقع، بجميع أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والإقليمية والدولية، لتحدد معالم حركته وآفاق تطوره مستقبلا. ليس هناك قطعا أفق واحد بسبب إمكان وقوع أحداث مفاجئة تغير مجريات الأمور وربما تحددها وذلك هو سر استئثار الله بعلم الغيب عنده وركن ركين من أركان الإيمان. لن تكون قراءتنا علمية قطعا باعتبار غياب كثير من المعطيات والتفاصيل اللازمة لتكوين فهم دقيق لجميع أبعاد المسألة وتشعباتها. كما أنها لا تدعي الموضوعية الكاملة بسبب وقوعنا تحت أثقال الهوية والتاريخ والأحلام. إنها وفقط محاولة متواضعة تريد فتح باب الحوار في أخطر قضية وجودية بالنسبة لنا ألا وهي مصيرنا الوطني خلال السنوات المقبلة. يعني ذلك بوضوح استمرار حالة الانسداد السياسي مع بقاء الاحتقان الاجتماعي وراء حدود الانفجار الشامل. إمكانية تحقق مثل هذا السيناريو المشؤوم متوفرة في الوضع الحالي وهي في رأيي نتاج تفاعل عناصر ثلاثة : أثبتت أحداث كثيرة، على رأسها حرب الخليج الأولى والحرب الأخيرة على لبنان، قدرة النظام التونسي على تغيير قشرته مع الحفاظ على فصيلته الدموية. فقد تمكن من التكيف مع الواقع الجديد فتحول إلى بطل قومي يساند العراق ويتبرع بالدم لأطفال فلسطين ولبنان وينظم مظاهرات التنديد بالصهيونية والامبريالية الأمريكية. براغماتية في أعلى درجات الانحطاط الأخلاقي، المصطلح عليه دينيا بالنفاق، مكنت النظام التونسي من امتصاص الغضب الشعبي العارم على "الأنظمة العميلة" وساهمت إلى حد كبير في تعزيز شعبيته وعزل المعارضة التي تصفه "تجنيا وتحاملا" بالعمالة. يستعمل النظام التونسي إذن سياسة "حكيمة" من أجل تحقيق هدف حقير. فهو يوسع دائرة الأصدقاء لتشمل الملائكة والشياطين. فمن بوتفليقة إلى شارون مرورا بالقذافي ومبارك وحزب الله وإيران ومنظمة التحرير الفلسطينية وصولا إلى أردوغان والحلف الأطلسي وجميع الدول الغربية، تبقى فرص الدعم والحماية له وفيرة تفوق بكثير المخاطر والتهديدات التي يمكن أن يواجهها يوما. أما هدفه من ذلك فهو استتباب أمنه واستقرار الأمور لنظامه من بعده وتجنيب بطانته وأعوانه تكاليف انفتاح سياسي أو ديمقراطية تفضي حتما لعدالة حقيقية هي العدو المتربص والأوحد. لا يجادل منصف ولا خبير بأن المعارضة التونسية هي معارضة ضعيفة بسبب تشتتها. فأن تكون أقلية و"نخبوية"، كما يحلو للبعض تسميتها، فذلك أمر طبيعي لا تناقض فيه القانون الطبيعي للتدافع السياسي ضد الاستبداد حيث كل المعارضات أقليات وشراذم من المشاغبين والخونة والعملاء، أما أن تكون مشتتة فذلك هو سر ضعفها الحقيقي. لقد باءت كل محاولات التجميع والتقارب، إلى حد الآن، بالفشل الذريع. ولم تكف حسن النوايا والإرادات الصادقة والسواعد الكادحة نحو التوحيد في تجاوز ظواهر الإقصاء والانقسام والغياب شبه الكامل للإجماع حول مطلب رحيل الدكتاتورية أو إستراتيجية مقاومتها. ولا تشكل مبادرة 18 أكتوبر إلى حد الآن سوى محاولة تجميع وحوار واحتجاج باهت ومتقطع لم ترتق بعد إلى مستوى الجبهة السياسية التي تعد البديل وتسعى نحو إنجازه عبر النضال الميداني المتصاعد والمدروس. 3- العنصر الثالث : تداعيات الحرب الأخيرة تنطلق رؤيتنا لهذا العنصر من مقدمة اعتبار الحرب الأخيرة على لبنان نصرا لقوى المقاومة والتحرر وهزيمة لقوى الهيمنة في المنطقة والعالم. وعليه سوف يكون من نتائج هذه الحرب مستقبلا الانسحاب التدريجي لهذه الأخيرة من المنطقة وإعادة تمركزها في مناطق أخرى سوف تتحول بدورها إلى مجالات حيوية ذات أهمية قصوى وربما من الدرجة الأولى. تقع منطقة شمال إفريقيا ضمن هذا المجال باعتبار توافر كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي فيها وبسبب موقعها الاستراتيجي على الضفة المقابلة لأوروبا، على مرمى حجر من صواريخ يمكن لل"أصوليين" توجيهها إلى بعض المدن والعواصم وقواعد حلف الناتو إذا ما اعتلوا سدة الحكم يوما. الحضور الأمريكي الجديد في المنطقة، تركيعا للجماهيرية ومغازلة للجزائر وابتلاعا لمصر وتونس والمغرب، كلها وغيرها مؤشرات على مرحلة قادمة تكون فيها هذه المنطقة أشبه بشرق "كوندي" أوسطي جديد تخترقه اللوبيات الصهيونية والماسونية وتدمره عناقيد الغضب والقنابل الذكية والانفجارات الانتحارية. لن يكون هناك ربما احتلال مباشر على الشاكلة الأفغانية أو العراقية ولا اجتياح على الصورة اللبنانية ولكن سيكون هناك دعم قوي للأنظمة الحاكمة ورفض لأي انفتاح أو مغامرة سياسية قد تشهر على أوطانهم سيوف طارق بن زياد وتفتح في وجوههم أبواب جهنم. السيناريو الثاني : الانفتاح المشروط تحقق هذا الاحتمال مرتهن لوصول عقلاء جدد بدل المحافظين القدم إلى البيت الأبيض، كما إلى تبني سياسة أوروبية جديدة تعيد الانتظام في تراثها التنويري وإعادة إنتاج قيم الحداثة وممارستها في العالم كله لا احتكارها في كياناتها القومية حقا للرجل الأبيض دون غيره. وقتها يمكن مفاوضة الشعوب وربما حتى مقايضة ثرواتها بثمن معقول يوفر الأمن والرفاه كما الحقوق والكرامة لكل الناس. إنه احتمال يستوجب رفع الدعم اللامشروط عن الأنظمة الدكتاتورية ودفعها للانفتاح السياسي وبناء الحكم على الرضا والقبول لا على القمع والإرهاب. لن تكون هناك قطعا ديمقراطية كاملة على الطريقة التي عاشتها الجزائر أواخر ثمانينات القرن الماضي، لاعتبارات ذكرناها سابقا، وإنما انفتاح مشروط يتم فيه تقاسم السلطة والثروة ويقبل فيه كل طرف بالتنازل عن بعض مصالحه وأهدافه من أجل سلم يجنب كل الأطراف كوارث الحرب والنزاعات. عقلية الغنيمة وعقدة الاستعلاء والتفوق، المتغلغلة في البنية الذهنية للرجل الأبيض، مضافا إليها وجع الهزيمة وشبح الموت الامبراطوري، من جهة، وتعنت الدكتاتوريات الحاكمة وصممها عن نداء العقل بفعل سكرة الحكم سوف تؤدي إلى مواصلة سياسة العصا الغليظة وتركيع الشعوب وقطع الأمل أمام أي أمل في حل سلمي يخرجنا من الجحيم. إنه حل مثالي للحالة التونسية على اعتبار غياب أطراف أصولية متطرفة عن الفضاء السياسي رغم بدء حضورها في زوايا المجتمع. المعارضة التونسية هي عموما معارضة معتدلة بجميع أطيافها. ولعله من المضحكات أن يكون الحزب الأكثر تطرفا وأصولية سياسية هو حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يتزعمه واحد من أشرس المدافعين عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم. حزب ينادي برحيل الدكتاتورية، لكن بالوسائل السلمية والمدنية دون غيرها. أما حركة النهضة الإسلامية فهي أكثر الحركات اعتدالا وانفتاحا على مخالفيها السياسيين والعقائديين والأكثر رغبة في التسوية السياسية لأنها من أكبر المتضررين حاليا. باقي الأحزاب والعائلات السياسية لا تختلف كثيرا في أطروحاتها السياسية (مطلب الديمقراطية) والاجتماعية (مطلب العدالة) والقومية (الوحدة وتحرير فلسطين) والدولية (الاستقلال وفك التبعية والسلام العالمي ومساندة القضايا العادلة)، إنها إذن أرضية مثالية لحل مثالي يمكن أن يحول تونس فعلا إلى نموذج سياسي عالمي في منطقة ملغومة. السيناريو الثالث: الفوضى الشاملة والانتحار الجماعي إنه احتمال ممكن جدا وليس محض فرضية نظرية. عناصر هذا الاحتمال موجودة وبقوة حاليا، بل لست أبالغ إذا قلت بأنها تتدعم خلال الأشهر الأخيرة بشكل ينذر ربما بتحوله، للأسف ودون مبالغة، الاحتمال الأكثر رجحانا. العنصر القوي في رجحان هذا الاحتمال هو وقوعنا على أبواب انتقال فجائي للسلطة مع مرض الرئيس بن علي وإمكان رحيله في أجل قريب. ليس المرض أو الموت في حد ذاته عاملا محددا في رسم المستقبل. تلك حقيقة في الأنظمة الديمقراطية حيث يتربع القانون سيدا فوق الجميع ولا يترك في باب انتقال السلطة أي ثغرة، أما في النظام الدكتاتوري فإن الزعيم لا يموت وهو قائد إلى الأبد. أما إن مات حقا فليكن الطوفان ولتحترق كل الأرض. ذلك هو ما يجعل من مسألة انتقال السلطة والمؤهلين لها المسألة الأكثر غموضا واستعصاء على الفهم. إنها قضية مفتوحة على المضاربات والتوقعات لا على القانون واليقينيات. من يستطيع اليوم أن يدلنا على خليفة بن علي على رأس النظام الدكتاتوري. نتحدى في ذلك كبار فقهاء القانون والمحللين السياسيين من التونسيين والغربيين. إنه المسكوت عنه وإن صرح به القانون، إذ ليس لهذا الأخير في النظام الدكتاتوري إلا وظيفة التسلط والإخضاع وإحضار هيبة الدولة. في تونس ينفتح انتقال رأس السلطة على أسوء التوقعات والبدائل، فمن كمال مرجان وصالح جغام إلى بن ضياء والقنزوعي مرورا بالحرم المصون والولد الحنون والصهر المفتون، يبقى الوزير الأول (محمد الغنوشي) كما رئيس مجلس النواب (فؤاد المبزع) آخر المرشحين رغم أنف القانون (الفصلان 56 و57 من الدستور التونسي). مضحكات مبكيات، تقف بنا على أعتاب حرب أهلية حقيقية ربما تفتح أبواب البلاد على مذابح وتصفيات بين عصابات الحكم المتنفذة قد تستدعي قوة حماية دولية لشعب أعزل ومسالم. دقة اللحظة الدولية إثر الحرب الأخيرة واحتمالات توليدها للنزعة الانطوائية لدى أمريكا، بسبب فشل سياساتها الشرق أوسطية ومراجعتها حساباتها الإستراتيجية الخاطئة وربما استعدادها لحرب جديدة فاصلة ومباشرة مع أعدائها في المنطقة قد تجعل من هذا السيناريو العبثي المدمر أكثر السيناريوهات حظوظا. ذلك ما لا نتمناه لتونس لكن هيهات أن تكون السياسة أماني والمصير أحلاما جميلة.