تمثل المؤسسة الدينية في العالم العربي أحد أهم وأخطر مؤسسات المجتمع وأكثرها حساسية ، ولذلك حرصت جميع النظم السياسية على احتواء هذه المؤسسة والسيطرة على قيادتها وقادتها ، حتى أكثر النظم تطرفا في الخيار العلماني ، مثل نظام الحبيب بورقيبة ، وكان كل زعيم عربي يحاصر أو يشعر بالمحنة يلجأ إليها وإلى منابرها لكي يستمد منها القوة والروح ، ولقد أخطأت كثير من القوى السياسية في العالم العربي تقدير دور هذه المؤسسة ومكانتها وأهميتها في حماية ودعم قوة المجتمع في مقابل تغول السلطة ، وبسذاجة مثيرة حملوا تلك المؤسسة ثمار ونتائج عمليات التخريب السلطوية التي تعرضت لها بقصد تهميشها وقصقصة ريشها واحتوائها بحيث تصبح بوقا جديدا للنظام السياسي وليس درعا وحماية كما كانت تاريخيا للمجتمع والشعب والبسطاء ضد الاستكبار المحلي والأجنبي ، وفي حكايات الجبرتي الكثير عن مواقف الأزهر على سبيل المثال في رد المظالم إلى أهلها ، وانتزاع الحقوق من ذوي السلطان إلى الفقراء والبسطاء ، حتى أن علماء الأزهر كانوا يعلنون "الإضراب" وغلق أبواب المسجد عندما يأتيهم وفد شعبي من أحد مناطق مصر يتضرر من مظالم قام بها الولاة ، ولا ينفك الإضراب حتى يعود الوفد مجبورا ومنتصرا بانتزاع الحق ، ولذلك قلت وأكرر ولا أمل التكرار ، بأن تحقيق استقلالية المؤسسة الدينية أحد أهم أركان الإصلاح في مصر ، لأن استقلاليتها هي دعم لقوة المجتمع وخصم من أجنحة السلطة وتغولها ، والمؤسسة الدينية في الإسلام أبعد ما تكون عن "الكهنوت" بمفهومه في التراث الغربي ، بل إن تكوين المؤسسة الدينية في الإسلام يقوم على الاجتهاد والحق في الخلاف ، وفق ضوابطه العلمية ، ولا يوجد فيها من يملك الادعاء بأنه يأتيه الإلهام أو الوحي بالحق والحقيقة ، وإنما المبدأ والمنهج "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" ، والذين تحدثوا باستخفاف مؤخرا عن الأزهر وحاولوا الإساءة إليه بسبب وقوع بعض الأحداث به أو بمن انتسب حينا من الزمن إليه ، كان الأحرى بهم أن يبحثوا عن الأسباب التي أدت إلى هذا الانهيار في دور الأزهر ومكانته وحرمته بين منتسبيه وحتى بين مثقفي الأمة ، وأن تكون وجهتهم هي إحياء الأزهر ومكانته وحماية دوره ورسالته وتعزيز قوته الأدبية في المجتمع وليس الإيغال في إهانته وإضعافه ، أهاج هذه المعاني في نفسي ما حدث هذا الأسبوع من فضيلة شيخ الأزهر ، الذي غير رأيه وموقفه بزاوية مائة وثمانين درجة في قضية واحدة دون أن تطرف له عين ، فعندما انتفضت الأمة غضبا مما يحدث للمسجد الأقصى واجتمع مجمع البحوث الإسلامية وأصدر بيانا شديد اللهجة ، تحركت عاطفة الشيخ بعفوية وهاجم الكيان الصهيوني وأعلن أن الجهاد من أجل حماية المسجد الأقصى والدفاع عنه فرض عين على كل مسلم ، وعندما قرأت هذا الكلام قلت في نفسي "مش ها تعدي" ، وذلك أن مثل هذا الكلام لا يتناغم مع التوجهات السياسية عند من "عينوه" ، وأنه سوف يسبب حرجا للقيادة السياسية ، وأن "أطرافا" في السلطة سوف تتحرك وسوف تنبه الشيخ وربما تعنفه على تصريحاته ، وبالفعل لم يمض أكثر من يوم واحد حتى صرح الشيخ بكلام آخر عجيب قال فيه : أن حماية المسجد الأقصى هو مسؤولية إخواننا الفلسطينيين ؟!! ، وهو التصريح الذي استفز علماء فلسطين فطالبوا شيخ الأزهر بأن يقرأ التاريخ جيدا ، وربما منعهم الحياء أن يطالبوه بأن يقرأ "دينه" أيضا جيدا ، بكل تأكيد قائل الكلام الأول هو نفسه قائل الكلام الثاني ، فما الذي تغير خلال أربع وعشرين ساعة ؟! ، .. وتسألون عن أسباب الانهيار في المؤسسة الدينية .