سبق وأن دعوت في مقالات عدة كتبتها بمناسبة أشهر اضراب جوع عرفته تونس أيام انعقاد قمة مجتمع المعلومات الى تحويل حركة المضربين عن الطعام من تحرك احتجاجي مطلبي مؤقت ومحدود الأفق الى تحرك ذي أفق سياسي يحتضن العمل الوطني المعارض باتجاه مطالب ومحاور استراتيجية تفرض على السلطة أجندة حقيقية شاملة للاصلاح الجاد . شاءت الأقدار بعدها وفي ظل تظافر الدعوات والنداءات من أجل التأسيس لعمل وطني جامع منطلقه وأساسه أهداف القادة المضربين عن الطعام أن تظهر الى الوجود الهيئة التنسيقية للحقوق والحريات ,غير أننا فوجئنا بعدها وفي مراحل النشأة بانسحاب واحد من أبرز قادة التحرك وهو القاضي المختار اليحياوي ,الذي يبدو أنه اقتنع في مراحل متقدمة بفشل المشروع نتيجة استحالة التوفيق بين طروحات اليسار اللائكي في تونس وأنصار المشروع العربي والاسلامي . في تطور لاحق ومع الاعلان في ندوة صحفية قبل سنة ونصف عن تأسيس هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات, فوجئ بعض المؤسسين للهيئة عن تراجع بعض العناصر القيادية في حركة النهضة عن الاعلان عن أنفسهم داخل الهيئة بصفتهم الحزبية المسؤولة,وهو ماجعل البعض من المراقبين يؤول الأمر الأمر على أنه تعبير واضح من هؤلاء عن غياب هيكلة واضحة للنهضة بعد ماتعرضت له من تصفية أمنية منذ بداية التسعينات ,في حين ذهب البعض الاخر الى تأويل الأمر على أنه كبح غير معلن من قيادة المهجر في ظل حرصها المستمر على الظهور بصفة الممثل الشرعي والوحيد لجسم النهضة في الداخل والخارج ... سجلت هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات الاعلان عن تشكيلتها الأولية من خلال ماأدلت به من مواقف في ندوات صحفية قليلة تعرضت للمحاصرة والمضايقة من قبل السلطات التونسية , وذلك لما شكله حدث التقارب بين الاسلاميين والعلمانيين داخل الهيئة من احراج كبير أزعج السلطة نتيجة جلسات استماع سجلتها بعض العواصم الأوربية أثناء استقبالها لبعض قياديي الهيئة. كان من الواضح جدا بأن الهيئة مازالت بعيد مالقيه اضرابها من صدى عالمي تحت أضواء الاحتفال بنقاط اعلامية وسياسية سجلتها في مرمى الجهات الرسمية ,غير أن هذا الاحتفاء سجل تراجعه المركزي أسابيع قليلة بعد انتهاء الاضراب وذلك في ظل حرص الأطراف اليسارية على الهيمنة على المشروع داخل الرقعة الجغرافية للبلاد التونسية ,كما حرص النهضة على تحزيب اللجان المهجرية المساندة للتحرك واخضاعها لبرنامج تحركها السياسي والاعلامي على مستوى مناطق مهجرية عدة . بالتوازي مع هذه المعطيات نشطت الالة الأمنية للسلطة لقمع العناصر التي ساندت التحرك داخل البلاد لتسجل بذلك اعتداءات على عناصر نشطت من أجل تحفيز المشروع وتنشيطه من منطلق وطني داخل الجهات ,وضمن هذا الاطار تواصلت نفس الخطوات عبر منع لقاءات الهيئة المعلن عنها أو عبر قمع تحركات احتجاجية نادرة نظمتها في وقت لاحق ,غير أن أبرز ماعمدت اليه السلطة من توجهات قبالة تشكيلة الهيئة كان اثارة القضايا الخلافية ذات المنزع الايديولوجي على مستوى وطني,حيث برزت بعد فترة قليلة تصريحات استفزازية لمسؤولين رسميين كانت محاورها قضية الحجاب والمرأة وغير ذلك من قضايا كثيرا ماشكلت عنصر نزاع فكري وسياسي بين النخب التونسية. أصابت عدوى هذه التصريحات مشروع هيئة 18 اكتوبر للحقوق والحريات لتتحول موضوعاتها الى ملفات نقاش فكري وايديولوجي داخل منتدياتها,وعوض أن تفوت الهيئة الفرصة على السلطة بعدم الخوض في هذه القضايا الخلافية والتركيز فقط على تحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة للمشروع : - حرية التنظم + حرية الاعلام + اطلاق سراح المساجين السياسيين وسن العفو التشريعي العام , فان الأطراف اليسارية المتواجدة بالهيئة أصرت على اقحام العناصر الاسلامية والنهضوية في مربع تقديم التنازلات الفكرية والدينية التي من شأنها اضعاف الصف الداخلي للحركة ومن ثمة فض روح الوفاق داخلها ,تمهيدا لتحويل هيئة 18 أكتوبر الى هيكل ميت ومعزول عن عمقه الجماهيري . أمضى الاسلاميون على بيان مشترك أشار اليه الزميل صلاح الدين الجورشي باحتفاء في تقريرين سابقين ,وتناسى هؤلاء بأن مطالب الشعب التونسي هي بدرجة أولى تحقيق واقع سياسي واقتصادي واجتماعي أفضل يرقى الى تخليص التونسيين من الكبت والقهر الذين صاحبا دولتهم الحديثة ,كل ذلك في كنف احترام عقيدة الشعب وثوابته الحضارية الأساسية والتي لم تكن يوما ما محل خلاف بين شهداء معارك التحرير ولا محل جدل بين عشرات الالاف من الذين توافدوا على السجون التونسية منذ الاعلان عن تأسيس دولة الاستقلال ... يجد اليسار التونسي اليوم نفسه محاصرا من جديد بموجات التدين الواسعة التي تشق المجتمع التونسي ,وهو مايجعل بعض اطرافه غير الجادة في طلب الحرية والديمقراطية تتهافت على تقويض أي أفق سياسي أرحب يكون الاسلاميون فيه طرفا طبيعيا في الحياة العامة , ولعل الالحاح على توريط النهضة في امضاءات غير ممثلة لقواها الحية الحقيقية في ظل واقع التشرذم بين السجن الضيق والسجن الأرحب وواقع المنفى ,يشكل في نظرنا مسمارا في نعش الهيئة المذكورة أو سقطة سياسية لن تغتفر للاسلاميين التونسيين الذين يقدمون أنفسهم للعالم مزيجا من التمسك بالثوابت ومشروعا للتشبث بمعايشة قيم العصر . يبدو أن واقع الحال يقول بأن هيئة 18 أكتوبر التونسية قد تحولت من مشروع وطني للحريات الى مشروع ضيق للايديولوجيات ,فهل يكون هذا اعلانا رسميا عن وفاتها ؟,أم أن مطلب الحرية سيغلب على أجندة مؤسسيها لتحافظ على تشبثها بمشروع وطني عربي واسلامي منفتح يضمن لها تدفقا سلسا داخل شريان الحياة ؟ 7 أفريل 2007-20 ربيع الأول 1428 ه -نشر بتاريخ 8 أفريل 2007على صحيفتي الحقائق الدولية+الوطن الأمريكية+ميدل ايست أون لاين بتاريخ 9 أفريل 2007 . كاتب واعلامي تونسي - رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :