أعادت قمة الرياض التي انعقدت في نهاية شهر مارس الماضي تفعيل المبادرة العربية للسلام ،التي أطلقت في عام 2002، من قبل الملك عبد الله ، الذي كان في ذلك الوقت وليا للعهد.والمبادرة العربية التي وافق عليها العرب بالإجماع "معتدلين و متشددين"، و المدعومة من قبل الأكثرية الفلسطينية، يشهد على ذلك حضور رئيس الحكومة الفلسطينية السيد إسماعيل هنية في قمة الرياض ، و التي التزمت حركته المتحدر منها "حماس" "باحترام" الإجماع العربي،تتميز بالبساطة.تنسحب "إسرائيل" إلى حدود الرابع من يونيو 1967، و تستعيد سوريا الجولان ، و تقام الدولة الفلسطينية في غزة و الضفة الغربية و القدسالشرقية.و في المقابل تقيم الدول العربية الإثنتين و العشرين علاقات دبلوماسية كاملة مع "إسرائيل" إضافة إلى علاقات تجارية و تعهد بضمان أمن حدودها.أي انسحاب كامل مقابل سلام كامل. المبادرة العربية للسلام لاتحمل أي شيء جديد، و لا هي ابتكار في الفكر السياسي العربي،بل إن كل من يدرس القرارات الدولية الخاصة بالصراع العربي- الصهيوني ، لا سيما القرارين :242الصادر عام 1967، و 338 الصادر عام 1973، يلمس بوضوح أن هذين القرارين اللذين تبناهما مجلس الأمن الدولي، يطرحان مبدأ مقايضة الأرض بالسلام. و على أرضية هذا المبدأ ، أي السلام مقابل الأرض، أبرم الرئيس السابق أنور السادات اتفاقيات كامب ديفيد مع "إسرائيل"عام 1978 ، حيث استعادت مصر بموجبها شبه جزيرة سيناءالمحتلة بعد أن فككت المستوطنات الصهيونية التي أقيمت فيها رغم معارضة اليمين المتطرف، مقابل إخراج مصر من دائرة الصراع العربي- الصهيوني.و كان مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، عقد وفق مبدأ الأرض مقابل السلام، كماأًَبرمت اتفاقيات أوسلو عام 1993، التي أطلق عليها شارون رصاصة الرحمة في الانتفاضة الثانية ،على أرضيةالمبدأ عينه. وجاء الرد الصهيوني الحقيقي على مبادرة السلام العربية ليس على لسان وزيرة الخارجية تسيبي ليفني أو نائب رئيس الوزراء شمعون بيريس اللذين طالبا العرب بالتطبيع أولا قبل التفاوض، بل الجواب الحقيقي هو الذي قاله رئيس الأركان غابي اشكنازي من أن "إسرائيل" تستعد للحرب المقبلة و هي "ستكسبها حتما"، وأن حرب تموز من العام الماضي لن تتكرر. و السؤال الذي يطرحه المحللون، لماذا تثير المبادرة العربية للسلام هذا القدر من التفاؤل، في الوقت الذي ترد عليهم "إسرائيل" بالإستعداد للحرب باعتبارها طرفا غير مهيء للدخول في مفاوضات مع العرب و الفلسطينيين من موقع الفاقد لقوة الردع، أو من موقع المضطرب سياسيا بسبب حرب تموزو إسقاطاتها المدمرة على الكيان الصهيوني داخليا؟ "إسرائيل"لاتريدإلاسلامها الخاص الذي يقوم على اعتراف العرب بها كدولة يهودية خالصة، أي أنها تسعى إلى الحصول على اعتراف بأرض الميعاد، وهي فكرة تستند إلى دعوى توراتية و نهاية رمزية للإضطهاد الذي عانى منه اليهود على مر العصور،و الذي بلغ ذروته مع الاضطهاد النازي ،حسب وجهة نظرهم.و من وجهة النظر العربية عامة ، و الفلسطينية خاصة، يمثل هذا الاعتراف استسلاما شاملا لمطالب الحركة الصهيونية العالمية و تجسيدها المادي - الكيان الصهيوني-و نفيا مطلقا لحق الشعب الفلسطيني أن يكون سيدا على أرضه التاريخية المعترف بها من قبل الشرائع و الأديان السماوية، إضافة إلى القانون الدولي الحديث. "إسرائيل " تأسست على أساس القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني /نوفمبر عام 1947، الذي ينص على تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين يهودية و عربية. وقد خاضت دولة الكيان الصهيوني الناشئة الحرب و سفك الدماء العربية في العامين 1948-1949، إذ انتصرت "إسرائيل " في تلك الحرب ،و تمكنت من مضاعفة الأراضي التي كانت مخصصة لها باحتلالها صحراء النقب غير المأهولة بالسكان. وأوقف القتال باتفاق لوقف النار و ليس باتفاقية سلام. ورغم أن "إسرائيل " كسبت كل حروبها مع العرب، وصدرت عدة قرارات دولية عن مجلس الأمن تنص على التفاوض بين العرب و الصهاينة لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، فإن الكيان الصهيوني في كل تسوية أو عملية سلام كان يجريها مع العرب و الفلسطينيين ، كان يرفض دائما التحدث عن حق العودة لللاجئين الفلسطينيين. بيد أن أي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية على أساس القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في الأممالمتحدة يجب أن تفضي إلى تطبيق القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة..من هنا ، و على الرغم من أن الرئيس الراحل ياسر عرفات اعترف بوجود "إسرائيل" ووقع اتفاقيات أوسلو ، فإنه في المفاوضات الأخيرة التي دارت في كامب ديفيد في نهاية ولاية كلنتون الثانية تموز 2000، و التي شارك فيها رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك باراك ، والرئيس كلينتون شخصيا ،الذي جمع فرقاء الصراع ، أعطى المتحدثون الرسميون الأميركيون والصهاينة انطباعا أن عرفات، فيما خص مسألة الأراضي ، سوف يقبل بتلهف العرض الذي اقترحه باراك لاحقا بشكل رسمي ( التخلي عن 95 في المئة من الأراضي المحتلة في الضفة الغربية) و أنه ، فيما خص مسألة القدس، سوف يرضى بإنشاء عاصمة فلسطينية في إحدى ضواحي القدس التي كانت قد ضمت من قبل "إسرائيل" إلى القدس الكبرى،لكن اتضح أن هذه الاقتراحات الصهيونية لم تلق أي قبول من جانب عرفات و منظمة التحريرالفلسطينية، اللذين رفضا التنازلات عن حق العودة مقابل العروض الصهيونية. و في الواقع ترفض "إسرائيل : الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، رغم أنها هي المتسبب الرئيس و الأساس في عملية اقتلاع شعب من أرضه ، و تشريده في مختلف البلدان العربية المجاورة . بيد أن الشعب الفلسطيني حتى و أن أقر بقبول تسوية للقضية الفلسطينية، فإنه يرى وجوب أن تفضي هذه التسوية إلى تطبيق قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194 الذي كان يجري تأكيده سنويا منذ العام 1948،و الذي ينص صراحة و بالتحديد على "السماح لمن يرغب من اللاجئين بالعودة إلى ديارهم في أقرب وقت ممكن و العيش بسلام مع جيرانهم". ماذا يبقى لو تم التخلي عن حق العودة ؟ في الواقع ستتحول القضية الفلسطينية الذي يمثل حق العودة جوهرها إلى مجرد قضية إنسانية تعنى بها المنظمات غير الحكومية لا كقضية وطنية لشعب شرد من أرضه. ولو افترضنا أن العرب وافقوا على التطبيع و التخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين ، فهل يضمن لهم أن "إسرائيل " ستنسحب من الضفة الغربية و الجولان و ما تبقى من الأراضي اللبنانية و تقبل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ الأميركيون و الصهاينة يعرفون السلام أنه تسوية تنهي المطالبة العربية بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في استرداد أرضه السليبة ، و يطرحون على "الدول العربية المعتدلة " بإقامة محور على مستوى منطقة الشرق الأوسط تكون "إسرائيل " مركزه ،يقف في وجه إيران و سوريا و "حزب الله" وحركتي "حماس" و "الجهاد الإسلامي". وهكذا ، تنضاف المبادرة العربية إلى مبادرات السلام الأخرى الضائعة في الشرق الأوسط. أرسل الى الوسط بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني/