تشهد البلاد التونسية منذ سنوات قليلة حراكا سياسيا و ثقافيا لا تخطئه عين المراقب المنصف ، و بالمقابل تجهد السلطة نفسها حتى لا يكون في البلاد عمل مجدي لا ينسب إليها في مفارقة نكدة بين الشعارات المرفوعة و الواقع المعاش ، بما صار"ماركة مسجلة لها " إقليميا و دوليا و بما لا حاجة لنا للبرهان عليه رغم كثرة الأصوات المتزلفة و الكتابات المتملقة و من يسير على نهجها من " العيّاشة" و قليلي الحيلة و ممن غلبت بطونهم على عقولهم ... 1 مظاهر حراك لا تخطئها عين المراقب المنصف طبعا ألتزم هنا معيارا نسبيا لا يقيس الحقيقة على الأمل المنشود ولكنه يقيمها بالنظر إلى الممكن والمستطاع ، و لا يخفى على القارئ الكريم أن القياس الأول لابد أن ينتهي بصاحبه إلى اليأس و القنوط بينما يُبقى الثاني على شعلة النضال مشتعلة و إن خف لهيبها و نال التعب من حاملها ,,, من أهم مظاهر الحراك الثقافي التي ينبغي الإشارة إليها ما تقوم به مؤسسة التميمي للبحث و المعلومات من جهود طيبة لاستجلاء ما غمض من تاريخ تونس الحديث بقطع النظر عن الانتماء السياسي للباحثين المشتغلين بها و النشاط الملحوظ الذي تقوم به المنتديات الثقافية التابعة للأحزاب التونسية بما فيها أحزاب الديكور الديمقراطي ، وما يقوم به الفنانون التونسيون من نضال حقيقي من أجل توسيع هامش حرية التعبير في أعمالهم الأدبية و المسرحية ، و في المجال الإعلامي ما يبذله كثير من الصحفيين من جهد للخروج بالصحافة التونسية من مواطن الإسفاف و الضحالة و لا نتحدث عما يتكبده كتاب صحف المعارضة من مشاق حتى يعبروا عن الرأي المخالف و التضييقات تحاصرهم من كل جانب نذكر من بينهم جهود القائمين على قناة الحوار التونسي ..بالإضافة إلى أشياء أخرى يعسر رصدها غي هذا المقال ولكنها بدأت تفرض نفسها في الساحات الجامعية و المناسبات الخاصة لعل من أهمها مظاهر الصحوة الإسلامية الجديدة التي تعبر بالأساس عن رفض ثقافة الفراغ و الميوعة التي يحرص منظرو سياسة التهميش على انتشارها بين الشباب بنية تجفيف منابع التدين والالتزام بقضايا الأمة الحقيقية ... أما من الناحية السياسية فيلاحظ أن الجرأة على التعبير عن الحقيقة أو بعضها على الأقل يتزايد يوما بعد يوم و تتزايد معه مصداقية بعض رموز المعارضة و ينمو معها التفاف قطاعات من الناس حولهم . يبدو ذلك بالأخص في التوسع الأفقي الذي يشهده الحزب الديمقراطي التقدمي و ما يمليه ذلك من حاجة إلى مقرات جهوية جديدة ، و التقدم الذي سجله الحوار في صلب هيئة 18 أكتوبر على طريق صياغة العهد الديمقراطي بما يبشر بقرب تهيئة الأرضية الصلبة التي تفتقر إليها المعارضة التونسية مما جعل أطرافها غالبا ما تسقط في توجيه حرابها ضد بعضها البعض ... و مما لا شك فيه أن السلطة تراقب هذه الأحداث بعين التوجس و العداء و ترى في ذلك مؤشرات لا تُطمئن على المدى المتوسط وبالتالي وجب خنقها منذ البداية باستخدام الأساليب القديمة و استحداث ما يتطلبه الظرف من وسائل قد تكون حقيرة و وضيعة ولكنها في عرف الحاكم المغتصب ،فاقد الشرعية لا تهم الوسائل بقدر ما يهم تحقيق النتائج التي يُحافظ بها على الجاه و السلطان ... 2 إصرار عجيب على سياسة الانسداد السياسي في مقابل تلك الحركية الثقافية و السياسية التي نجحت بعض النخب التونسية في تحقيقها ،يُلاحظ إصرار عجيب على مواصلة سياسة الانغلاق و الانسداد بما يوحي و كأن البلاد لا تعيش عصرها ، فهناك جميع مواصفات الحكم الفردي المطلق الذي حوّل " رجال الدولة بمختلف مراتبهم إلى مجرد موظفين لا رأي لهم و لا وزن في اتخاذ القرارات التي تهمهم من قريب أو بعيد باعتبارهم مسئولين أو حتى مجرد مواطنين ، كل الوزراء يؤكدون في تصريحاتهم القليلة أنهم يستلهمون مفردات خطابهم من توجيهات رئيس الدولة بما أنسانا مآخذنا على عصر بورقيبة الذي كان في نظر جيل الاستقلال عنوانا بارزا لعبادة الشخصية وقد تبين لنا اليوم أن رجال الدولة في ذلك الزمان هم شخصيات لهم اعتبارهم و سياساتهم الخاصة و تاريخهم الخاص ، وكان لكل من رموز ذلك العهد أنصاره ومؤيدوه داخل الحكومة وخارجها رغم أن النظرة السائدة آنذاك هي أن بورقيبة كان حريصا على صنع الفراغ من حوله ، و إذا بالفراغ الذي صنعه خلفه ينسينا ما فات و يجعل الحديث عن صراع أجنحة داخل النظام لا يعتمد دليلا واضحا و الحال أنه من طبيعة أي نظام مهما كان نوعه ، فالتدافع بيت القوى داخل أي جسم حيّ من طبيعة الخلق و سنة الخالق سبحانه وتعالى ، لكنه الانغلاق و الطغيان و سياسة القبضة الحديدية التي تفرض التكتم الشديد و الصمت المطبق حتى إذا انفلت الزمام ، و لا بد له أن ينفلت ، فدوام الحال من المحال ،كان من الصعوبة بمكان التئام الجسم إذا تصدع و اجتماع الناس على رموز جديدة قادرة على قيادة المسيرة وحصولها على شرعية مناسبة ، يحدث ذلك اليوم كأوضح ما يكون في العراق ليس بسبب الاحتلال فقط كما يظن البعض و لكن لعوامل أخرى عديدة أهمها ما تركته الديكتاتورية من فراغ سياسي و ما فرضته على المجتمع من شرعية زائفة و ما صنعته لنفسها من أوهام الإجماع حولها ... هناك حرص مرضي لدى السلطة التونسية مند انتصابها على ادعاء ما تسميه بالإجماع الوطني حولها و التأكيد على هذا البعد بمناسبة و بدون مناسبة ، مرة باسم إنجاح معركة التنمية و أخرى باسم مواجهة الإرهاب و كنا في عقد بورقيبة نصبح و نمسي على نفس الأسطوانة و الحقيقة كما تبين فيما بعد أن رموز السلطة من حول الرئيس السابق كانوا في أشد فرقة و عدم انسجام ، أما بورقيبة نفسه فقد قضى حياته في اللعب على تلك المتناقضات (1). فهل يمكن أن يقنعنا أحد اليوم أن الإجماع الذي انعدم في عهد بورقيبة رغم الالتفاف الكبير للتونسيين من حوله أصبح واقعا في عهد سلفه ، هكذا حبا في سياسته و تطوعا لخدمته و خدمة آل بيته !؟... أكتب هذه الأسطر و في ذهني كلام كثير عن تماسك هذه السلطة و صلابتها في وجه معارضتها و ادعاء القدرة لها على الاستمرار الطويل ، وهذه أقوال المتعبين و المستعجلين و البسطاء ... و أعتقد أن هذه السلطة ما كان لها أن تستمر على نفس النهج لحد اليوم إلا لما أحدثته من حركية اقتصادية في البلاد مستفيدة من ظروف إقليمية مناسبة و من نخبة من الكوادر الوطنية و الرجال الأكفاء بعد أن تزامن حدث 7/ 11 مع بلوغ الجامعات التونسية أوج عطاءها ,و بعد أن بلغ الحرس القديم من رجال الدولة الشيخوخة أزهدتهم في العمل من أجل استعادة مواقعهم . يضاف إلى ذلك عدم نضج المعارضتين الوطنية و الإسلامية على حد السواء مما أوقعهما في حسابات خاطئة استغلها ابن علي و مستشاروه أحسن الاستغلال , و اليوم هناك في الأفق أسباب حقيقية لنجاح تغيير ديمقراطي حقيقي نلمسه في علامات نضح فريق من المعارضة و اتجاه رأس السلطة إلى النهاية الطبيعية من هرم و شيخوخة و انطلاق قطار المصالحة الوطنية في دول الجوار العربي و الإفريقي ، بالإضافة إلى عوامل أخرى دولية و نفسية و معنوية لا يتسع المجال هنا لتناولها نذكر منها فشل النظام التونسي في استئصال الظاهرة الإسلامية التي عادت بعد عقد و نصف رغم كل الأساليب المتبعة في الإجهاض عليها و لن يمر ذلك عليه دون أن يخلف مرارة يعبر عنها منذ سنوات قليلة بحملاته الموسمية ضد المحجبات و بإطلاق أيدي أجهزة أمنه ضد الشباب المتدين محاصرة و سجنا و تنكيلا و اتساع دائرة القمع لكل نفس معارض ، و لكن المرجح أن خسارته من ذلك أكثر من ربحه . 3 معركة "المقرات"يجب أن تتحول إلى معركة المعارضة الجادة بأكملها يمثل الحزب التقدمي الديمقراطي في تونس اليوم رقما مهما في المعارضة التونسية دون أن ينقص ذلك من شأن بقية الأحزاب ،و إن ما يستهدفه من سياسات يراد بها تحجيم دوره و إبطاء سرعة انتشاره في مختلف جهات البلاد ، و المرجح أن السلطة ستقدم على سحب شرعيته القانونية ، لأن هذه السلطة تشكل عدوا لأي نجاح في البلاد يتحقق خارج دائرة قرارها ،وهي بعقليتها الشمولية المقيتة تنظر إلى كل نفس معارض بعين الريبة و الحسد و تريد أن يكون العمل كله بإمرتها و تحت إشرافها ، و ضمن هذا السياق فهي تكرر مقولاتها الركيكة التي تلحق كل جميل بها و كل قبيح بالمعارضة , فهي الوطنية و المعارضة جماعات من الخونة ، وهي الناجحة و المعارضة فاشلة ، وهي الأمينة على مستقبل البلاد و المعارضة خطر تجب مواجهته ، وهي التي تقود المسار الديمقراطي ( !!) و المعارضة سلطوية تتنازعها أهواء أفراد قلائل ، وهي عنوان الحداثة والعصرية و المعارضة ماضوية و متخلفة ، وهي المعتدلة و المعارضة متطرفة و إرهابية ، وهي محررة المرأة و المعارضة ليس لها ما تضيفه في هذا المجال . و إذا تحقق في أوساط المعارضة أفراد أو جماعات نجاح من أي نوع كان ، فيجب أن يعاقب صاحبه أو الحزب الذي يقف وراءه بأقسى أنواع العقوبة فيقطّع إربا أو ينفى من الأرض ... و لا شك أن السلطة قد حاولت شق صفوف الحركة ،على غرار ما فعلته مع بقية الحركات و نجحت في ذلك بأقدار معتبرة ، لكنها فشلت وبقي الحزب متماسكا و لم يتورط في تزكية سياسة عشرية التسعينات المظلمة و لم يتحول كبعض الأحزاب الأخرى إلى ديكور ديمقراطي و مكتب خدمات سياسية كما هو حال حزب الوحدة الشعبية ، و اليوم هو أحد أقطاب حركة 18 أكتوبر يوفر لها مع التكتل الديمقراطي فضاء قانونيا و ينجح في امتحان التداول الديمقراطي فيجعل من المناضلة مية الجريبي أول رئيسة لحزب سياسي في البلاد ، و يحقق نجاحا مع شركائه في هيئة 18 أكتوبر على طريق صياغة العهد الديمقراطي يعد صدور " وثيقة التوافق حول المرأة و المساواة بين الجنسين " ، و حتى نفهم هذه السلطة جيدا علينا استخلاص الدروس من تجربة المناضل الدكتور رشيد الشملي فقد حوصر الرجل و يراد إبعاده عن ساحة الفعل الأكاديمي و في اختصاص أبعد ما يكون عن السياسة فقط لأنه معارض ، و المعارض لا يحق أن يحقق أي نوع من النجاح حتى لا يوظف ذلك في منافسة سياسية غدا... و لتذهب مصلحة البلاد ، و التقدم العلمي ، و الكشف المعرفي ... إلى الجحيم ، إن كان ذلك من دون أوامر صادرة من الرئيس و ليس في خدمة التجمع الدستوري صاحب السيادة على البلاد و العباد!!؟؟؟ و بالتالي فهذا المقال هو دعوة لقوى المعارضة في الداخل و الخارج و لكل القوى الحية في البلاد من النخب التونسية التي لا يمكن أن ترضى بأن يصل الأمر إلى هذا المستوى من الخساسة في العمل السياسي لأن هذا الأسلوب إذا نجح في إخضاع هذا الحزب سيفتح الطريق على مصراعيه للقوى المتشددة من الشباب لتقتنع بأن لا سبيل للتغيير غير العنف و القتال ، و الأجواء في المنطقة مهيأة لذلك و إن كانت السلطة التونسية قد أعماها جنون العظمة عن رؤية الحقيقة و العمل بما يحفظ دماء المواطنين فلتكن القوى صاحبة المصلحة في التغيير الديمقراطي في مستوى الحدث لتكون صدقا ، البديل المرتقب ... إن سياسة الإخصاء و صنع الفراغ يجب أن تكون لها نهاية و لن يتسنى ذلك إلا بعد أن يثبت الصادقون و تنهض معهم قطاعات معتبرة من الناس لتقول للظالم ": كفى ظلما و جبروتا و تكلسا" إن مواجهة سياسة الحصار المضروب على المعارضة حتى لا يتسنى لها التوسع و الانتشار سواء بممارسة الخطاب المسئول أو بخدمة العلم و المعرفة و تقديم المساعدة لطالبيها يجب أن تكون هدف المعارضة الجادة في المرحلة القادمة حتى لا تنجح إجراءات المنع و التضييق على المعارضة كي تفشل في التوسع و الانتشار ليقال بعد ذلك كالمعتاد ":إن المعارضة ضعيفة !!! .."و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون " (1) تجلى ذلك في الحلقات التي أعدتها قناة الغربية و بثتها تحت عنوان " زمن بورقيبة " و الحوارات التي دار برعاية مؤسسة التميمي للبحث و المعلومات و شارك فيها مجموعة من الوزراء التونسيين السابقين.