اندحار حركة فتح وهزيمتها العسكرية في قطاع غزة الفلسطيني لم يكن حدثا طبيعيا يمكن أن تتقبله الأنظمة العربية بكثير من البرود والترحاب ... تقهقر نفوذ هذه الحركة وتراجعها عسكريا وأمنيا وسياسيا الى مناطق الضفة الغربية لم يكن حدثا منتظرا لدى بارونات السلطة الوطنية الفلسطينية , بل انه لايمكن أن يكون اطلاقا محل توقع وتفهم لدى من تصدر الواجهة الفلسطينية سياسيا واعلاميا على مدار أربعين سنة ... فلقد أحدثت حماس عبر امساكها بمقاليد الأمور الأمنية والعسكرية بالقطاع زلزالا سياسيا ثانيا رصدت اثاره اسرائيليا وأمريكيا وأوربيا وعربيا في أكثر من عاصمة عالمية ... كان من "المعقول جدا" بل من المتوقع لدى بعض العواصمالغربية التي تعودت على صنع الحدث السياسي عربيا واسلاميا أن تنقلب الأنظمة العربية الرسمية على نتائج الانتخابات وعلى كبرى حركات المعارضة عبر الزج بعشرات الألوف من المناضلين في السجون والمعتقلات , وعبر اعلان ايقاف المسار الانتخابي أو الطعن في أهلية ممثلي الأمة والشعب ومن ثمة تدشين حقبة قمعية "مفهومة" في تاريخ ومسار المنطقة سياسيا ... لم تسر الأمور هذه المرة بحسب التقاليد الجاري بها العمل عربيا وبحسب مايرسم له من سياسات غربيا في اطار من مواصلة لعبة اقتسام المصالح والنفوذ بعد حقبة الاستعمار العسكري المباشر , بل جاء التصرف الأمني والاستخباري والسياسي الرسمي فاشلا هذه المرة ,الى الدرجة التي كلفت واحدا من حلفاء الولاياتالمتحدةالأمريكية واسرائيل هزيمة عسكرية ساحقة لم يتجاوز مداها الزمني أكثر من خمسة أيام ... خرج محمود عباس والعقيد دحلان بغصة سياسية وأمنية أحست بها أنظمة مصر والأردن وتل أبيب وبدرجة أقل أنظمة عربية أخرى , وكلفت الغصة على مايبدو كل هؤلاء وعلى رأسهم القيادات الفتحوية توبيخا أمريكيا وغربيا على ذهاب ريح "قوس الاعتدال"... الواضح من خلال رصد وتتبع اثار هذا الزلزال الثاني بأن القيادة المتنفذة في حركة فتح ومنظمة التحرير , أو بعبارة أخرى القيادة الفتحاوية المنهزمة في غزة , اتخذت قرارها على ضوء هذه الضغوطات الدولية بتصفية حساباتها أمنيا وسياسيا ليس فقط مع حماس في أراضي الضفة بل أيضا مع بقايا التيار الوطني المتواجد داخل الهياكل القيادية لحركة فتح . لقد جاء الدور بالأمس فقط على السيد هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ,وواحد من أبرز القيادات الوطنية الفلسطينية , حيث صدر قرار باعفائه من منصبه ككبير مستشاري الرئيس أبي مازن , بل ان الأمر تجاوز قرار الاعفاء الى قرار باحالته على لجنة تحقيق أو تأديب حركية من المنتظر أن تلعب دورا في تخويف الكوادر الوطنية الفتحاوية وارهابها من أجل تثبيت الأوضاع المحسومة لفائدة التيار المحسوب على الولاياتالمتحدةالأمريكية واسرائيل . الأسباب المعلنة رسميا داخل الأجهزة الفتحاوية المتنفذة والتي عزل بموجبها السيد هاني الحسن , كانت هذه المرة غاية في الوضوح والعلانية , حيث برر هذا القرار بتصريحات هذا الأخير لقناة الجزيرة حول "المجموعة الفاسدة" في قطاع غزة , وحول مطالبته بمحاكمتها بسبب ارتباطها بما وصفه بحسب مصادر اعلامية بالمشروع الأمريكي في المنطقة ... لقد قام الرئيس أبو مازن في مناسبة سابقة وحال توليه منصب الرئاسة بعيد وفاة الرئيس عرفات ,بعزل السيد هاني الحسن من موقعه كمسؤول عن التعبئة والتنظيم في حركة فتح , وهو ماعنى أن مشوار تقليص صلاحيات الكوادر الوطنية الفلسطينية بالمنظمة قد ابتدأ على عجل مع اسقاط أبي عمار من الوجود والحياة لما كان يشكله من بقايا منظومة تصدي وممانعة أمام التعنت الاسرائيلي . سياسات محمود عباس ومن يحيط به من كوادر فاسدة ومتحالفة مع أطراف دولية وعالمية نافذة على حساب الحق الفلسطيني , كانت سببا بلا شك في الهزيمة الانتخابية الأولى لحركة فتح أثناء الاستحقاق التشريعي , ولقد كانت قبيل أسبوعين أو ثلاثة سببا في الهزيمة الثانية والمخزية التي منيت بها فتح في مواجهة عناصر القسام وجهاز الشرطة التنفيذية , وهاهي اليوم , والم تسارع فتح الى مراجعة جذرية ووطنية وتصحيحية شاملة - تتسبب في عزل السيد هاني الحسن ومن يدري لعلها تكون غدا سببا في افراغ فتح نهائيا من توجهاتها الوطنية التي رسمها لها قادة مناضلون داخل الأراضي المحتلة وفوق اكثر من عاصمة عربية عرفت كثافة الشتات الفلسطيني ... انتقال المشعل الفلسطيني من فتح الى حماس كان طبيعيا في ظل تراجع الثوابت الوطنية لدى الأولى وتقهقر العملية التفاوضية ومزيد من التهام الأرض وبناء المستوطنات وضياع الحقوق الفلسطينية التي لم تواجهها العناصر المتنفذة في فتح الا بمزيد من التفاوض والتفاوض والتفاوض ,والتسول الدولي الذي ملأ خزائن محدودة ومعدودة بالأموال والاليات والامكانات في مقابل تعميم الجوع والفقر الفلسطيني ... تبقى القضية الفلسطينية في الأثناء تتأمل أفقا تحريريا وتفاوضيا أفضل , لكن بعد خوض معركة التصحيح الوطني الفتحوي , على اعتبار ماتمثله فتح من رصيد تاريخي ووطني وسياسي هام للشعب الفلسطيني , واذا لم تفلح فتح في معركة التصحيح والتعديل الوطني الداخلي , فان مقاليد الضفة الغربية ستحال في أفق زمني قريب أو متوسط الى حركة حماس ,وهو مايعني بداية مشوار جديد في تاريخ وعمر القضية الفلسطينية ... امل ألا يحدث هذا مع واحدة من كبريات حركات التحرر الوطني العربية ! حرر بتاريخ 30 جوان 2007-15 جمادى الثانية 1428 ه . *كاتب واعلامي تونسي/رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :