رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتصالات التونسية الاسرائيلية السرّية من بداية الخمسينات إلى حدّ هزيمة 1967
نشر في الوسط التونسية يوم 19 - 09 - 2007

لم نكن نتخيّل عندما تطرّقنا في العدد 37 من مجلّة «حقائق» بتاريخ 28 ماي - 10 جوان 2007 إلى موقف الهادي نويرة من مسألة الكيان الاسرائيلي على خلفية تصريحاته في صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية بتاريخ 10 أفريل 1953، أنّنا سنعود مرّة أخرى إليه في العدد 38 منها، لكن أن نرجع الآن إلى ذات الموضوع ومن زاوية أخرى ووفق رؤية أشمل فإنّ ذلك يحتاج منّا إلى توضيح دوافع هذه العودة إلى قرّاء مجلّة «حقائق».
كنت أعتقد أنّ طرح هذه المواضيع التي تعدّ «حسّاسة» للبعض لم يحن أوانه بعد، لكن «القبول» الذي حظي به مقال الهادي نويرة شجّعنا أكثر على المضيّ في هذا الطريق وفق قناعات مؤرّخ يحاول أن يفهم ما حدث ويتفهّم هذا الموقف أو ذاك على خلفية هذه الظرفية أو تلك وليس على وقع الحاضر أو آلام الماضي وبعيدا عن اصطياد العثرات أو البحث المحموم عن الهنات والثغرات للكيل إلى هذا أو ذاك.
إلى متى ''المحرّمات'' في تاريخنا الوطني؟
وأعترف أنّ هذا التمشّي ليس سهلا خاصّة إذا كان من يهتمّ بما تكتب، له قناعات محدّدة ينطلق منها إمّا للحكم عليك أو على من كتبت عنه في مقالك، وهنا تكمن دقّة الموضوع وحرج المسألة كأن يُحمّل نصّك أكثر ممّا يحتمل، فتجد نفسك عاجزا عن إيقاف هذا الحياد عمّا كنت تنوي إبلاغه، وبالتالي تخشى أن يكون نصّك ودون أن تدري ملاذا لمن يريد أن يتشفّى في هذا أو ذاك أو يستغلّ ما يعدّه هو ثغرة من هذا أو ذاك ليشهّر به. لهذا حاولنا في عددي المجلّة الخاصّين بمسألة التطبيع مع اسرائيل أن نفهم ما حدث ونتفهّمه دون أن يعني ذلك أنّنا نتخذ موقفا مساندا أو معارضا للتطبيع حتى وإن كنّا نتبنّى موقفا ما تجاه هذه المسألة.
وكان مرتكزنا في ذلك تصريح الهادي نويرة إلى الجريدة الاسرائيلية فحاولنا وضعه في إطاره مع التركيز خاصّة على عدم تعارضه مع التوجّه البورقيبي في هذه المسألة، إلى أن قُيّض لنا أن نلتقي أخيرا مع الزميل والصديق المغربي المؤرّخ محمّد حاتمي الذي يعدّ أحد المختصّين القلائل في المغرب الأقصى بل في المغرب العربي بالمسألة الصهيونية واليهودية، وقد سبق له أن علم بمقاليْ مجلّة «حقائق» فأمدّنا مشكورا بكتاب باللغة الانكليزية لمؤرّخ اسرائيلي يدعى ميخائيل ميناحيم لاسكييه يدرّس التاريخ في جامعة بار إيلان الاسرائيلية وعنوانه: «اسرائيل والمغرب: من تأسيس الدولة إلى أوسلو». olsO ot doohetatS morF : berhgaM eht dna learsI وقد صدر الكتاب في الولايات المتّحدة الأمريكية سنة .2004
العلم لا حدود له وإن كان من ''اسرائيل''!
ويعدّ ميخائيل لاسكييه الذي تذكر بعض المصادر أنّه يهودي من أصل مغربي مختصاّ في تاريخ العلاقات بين دولة اسرائيل وبلدان المغرب العربي واليهود في هذه البلدان الثلاثة. وينتمي لاسكييه إلى فئة المؤرّخين المهنيين الذين يتعاملون مع الوثائق التاريخية في أبحاثهم ممّا يصبغ صفة الموضوعية عليها ولا يعرف عنه انتماؤه إلى فئة المؤرّخين الجدد في اسرائيل أو فئة المؤرّخين «المتصهينين » بالرغم من محاولات البعض إلصاق هذه الصفة به.
وقد أسال هذا الكتاب حبرا خارج تونس إثر صدوره تمكّنا من مواكبته ولو نسبيا في الأنترنت وقدّمته مجلّة «جون أفريك» مرّتين إلى قرّائها في صيف 2005 فتفاوتت ردود فعلهم بين من استسهل المسألة فطفق يرسل التهم الجاهزة والنعوت السريعة إلى الزعماء التونسيين، فبدوا في نظره وكأنهم في ركاب الصهيونية وبين من ردّ بكلّ ما يملك من أدوات النفي والإنكار لإثبات ما يعجز هو فعلا عن إنكاره، وهو أنّ الاتصالات التونسية الاسرائيلية هي حقيقة لا مراء فيها ولا جدال حتى وإن أنكرها من قام بها من التونسيين أو من ينصّب نفسه مدافعا عنهم، فيظنّ أنّه قادر على أن يمحو بجرّة قلم ما هو ثابت تاريخيا أو يهمّش الحقيقة التاريخية من خلال تفنيد هذا الاتّصال أو ذاك أو إلصاق وزره على هذا الطرف دون الآخر. وفي هذا الخضمّ، تبدو لنا المسألة أبسط من كلّ هذا بكثير، لأنّنا نرغب في التعامل مع ما يتضمّنه هذا الكتاب من زاوية الباحث في التاريخ لا الصحفي الذي يبحث عن صبغة الإثارة في هذا الموضوع أو القارئ الذي يتفاعل معه وفق منطلقاته الفكرية أو الايديولوجية.
أرشيفهم وتاريخنا ! : فأين أرشيفنا؟
ومن هنا، يمكننا أن نؤكّد مدى الأهمّية الاستثنائية لهذا الكتاب الذي نعتبره هامّا للغاية بل ومبتكرا إلى أبعد الحدود لأنّه تمكّن من الاطّلاع على ما لا يمكننا الاطّلاع عليه حاليا نحن معشر المؤرّخين، على الأقلّ غالبيتنا حتى لا نسقط في التعميم، ألا وهو الأرشيف الاسرائيلي الذي «أفرج» عن وثائق عديدة في بداية التسعينات كانت مصنّفة ضمن باب «سرّي للغاية» ومن ضمنها الوثائق المتعلّقة بعلاقات الكيان الاسرائيلي مع بلدان المغرب العربي منذ الخمسينات وحتى السبعينات من القرن الماضي. فقد اطّلع لاسكييه على أرشيف دولة اسرائيل وتحديدا أرشيف الخارجية الاسرائيلية وأرشيف مكتب رئيس الوزراء والأرشيف الصهيوني المركزي في القدس و..و..العديد من الأرشيفات الاسرائيلية واليهودية الأخرى في اسرائيل والولايات المتّحدة الأمريكية على حدّ السواء إضافة إلى الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي في مدينة نانت الفرنسية ومكتبة الكونغرس في واشنطن، كما قام بتسجيل شهادات شفوية مهمّة لمعاصري فترة بحثه علاوة على مصادر وكتب أخرى تدعّم وثائق ومرجعيات كتابه. لكن، هل أنّ ما كتبه لاسكييه عن هذه المسألة على الأقلّ بالنسبة إلى جانبها التونسي حاد فيه عن الموضوعية أم التزم خلاله بمهنيته كمؤرّخ؟ إنني أصدقكم القول عندما أؤكّد بأنّ لاسكييه تميّز بانضباط مهني وقدرة على تحليل الوثائق ومقاربتها واستقراء دلالتها ممّا يحتّم علينا التنويه به في الجانب التونسي من المسألة، وإن كنّا نعتبر هذا رأينا الشخصي الذي قد لا يشاطرنا فيه ربّما حتى المختصّون، ويبقى عذرنا أنّنا اجتهدنا في هذا الباب وإن لاح للبعض أنّنا أخطأنا في ما يعتبره هو من المسلّمات.
على كلّ، نرجو أن يقع التعاطي مع مسألة الاتصالات السرّية بين بعض المسؤولين التونسيين والاسرائيليين من زاوية تفهّم دوافعها والابتعاد عن الأحكام المتسرّعة والجاهزة أحيانا، بل ونرغب في أن يُتطرّق إلى هذه المسألة دون حساسية مفرطة في الخوض فيها أو الانزواء الذاتي أو الإنكار الذي لا ينفع معه الإنكار، ونودّ أكثر أن لا تكون هذه المسألة كمثيلتها المتعلّقة بحقيقة العلاقة بين قوى المحور وبعض الوطنيين التونسيين التي استغلّت كثيرا من أجل تشويه سمعة حزب الدستور الجديد، اعتمادا على قوالب علموية جاهزة تنمّ عن أهداف مبطنة لا يمكنها أن تصمد كثيرا أمام تقدّم البحث التاريخي وأدواته، وبالتالي، بات بعض الوطنيين متّهمين في وطنيتهم وعليهم إثبات «براءتهم» الوطنية لكن لمن؟ وبعد كلّ هذا، نرجو أن لا تؤخذ هذه المسألة بحساسية لدى من يهمّه الأمر ويبادر إلى التكذيب القطعي والجازم و..و..، بينما نحن في حاجة إلى حوار هادئ ورصين نبحث فيه دوافع هذا الاتصال التونسي بالجانب الاسرائيلي وما تمخّض عنه ومدى فائدته ومخاطره وانزلاقاته و..و..أكثر من حاجتنا إلى الإنكار والتكذيب بينما جزء من تاريخنا محفوظ في أرشيف غيرنا، وبالتالي أليس أولى أن نفتح نحن أرشيفنا أيضا الرسمي منه والخاصّ - إن حوفظ عليه في هذا الجانب- عوض اللجوء إلى التشكيك في أرشيفات غيرنا، وبذلك يتبيّن لنا الخيط الأبيض من الأسود؟ ألم تكفنا تبعيتنا للخارج في ميادين عدّة حتى نضيف إليها تبعية أخرى هي تبعية الأرشيف بينما أرشيفنا موجود؟ هذا وقد أفضنا سابقا في الحديث عن الموقف النويريّ من الكيان الاسرائيلي ومن الهجرة اليهودية إليه...ولربّما عدّ بعض القرّاء موقف الهادي نويرة مبكّرا للغاية أو «رائدا» إذ يرجع إلى ربيع 1953، أو منعزلا ولا يلزم بقيّة قيادة الدستور الجديد -خاصّة وأنّ الهادي نويرة نفسه سيقدم على تقديم استقالته من قيادة الحزب لاحقا-، وإن لاحت إشارات مماثلة من الزعيم الحبيب بورقيبة.
صالح بن يوسف والباهي الأدغم : رائدا الاتصال بالاسرائيليين !
لكن، هنا يأتي هذا الكتاب الذي اعتمد على وثائق ديبلوماسية اسرائيلية كي يؤكّد لنا ما سمعناه منذ فترة من بعض المناضلين التونسيين حول قيام بعض الوطنيين باتّصالات مع الاسرائيليين والمفاجأة أنّ رائديْ هذا الاتّصال المبكّر هما: الباهي الأدغم وصالح بن يوسف !وقد تمّت لقاءاتهما حتى قبل بروز موقف الهادي نويرة فكيف ذلك؟ بدءا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكيان الاسرائيلي كان يهتمّ بعد إنشائه بمصير اليهود في شمال افريقيا ووضعيتهم، وقد تمكّنت الوكالة اليهودية وبعلم من السلطات الفرنسية منذ سنة 1950 من فتح مكاتب لها في مدن تونسية قصد تسهيل هجرة يهود تونس إلى اسرائيل ودرّبت سرّا فرقا يهودية للدفاع الذاتي على استعمال السلاح ..وزوّدتها بأسلحة نارية وقنابل يدوية..وذلك في بعض المدن التونسية، بغاية حماية اليهود في تونس من حملات محتملة ضدّهم، وقد أشرف يهودي اسرائيلي يدعى موشي هابابو أرنون على مركز تونس العاصمة التدريبي، هذا وقد تمكّن أكثر من 31 ألف يهودي تونسي من الهجرة إلى اسرائيل خلال سنوات 1948 - .1956 وهذا يدلّ على أنّ الكيان الاسرائيلي الناشئ لديه اهتمام بهذه المنطقة البعيدة عن قلب نزاعه مع عرب المشرق فهي تعدّ احتياطيا بشريا هامّا في حاجة إليه لإرساء دعائم كيانه. وهذا ما استوعبه الوطنيون التونسيون فلم يمانعوا حتى بعد تأسيس دولة الاستقلال في هجرة يهود تونس إلى اسرائيل، واستغلّوا هذه النقطة بالذات في اتصالاتهم مع ممثلي الكيان الاسرائيلي حتى يبيّنوا حسن استعدادهم للتعامل مع الواقع على الأرض وبأنّهم يختلفون عن «هؤلاء العرب».
الباهي الأدغم والاسرائيليون : الاتصال- الضرورة أم الاتصال - الواقعي؟
وفي الأثناء، كان الباهي الأدغم ممثّل حزب الدستور الجديد في نيويورك منذ أفريل 1952 ويعمل ما في وسعه كي تدوّل القضيّة التونسية وتعرض على أنظار الهيئة الأممية وكان هذا الأمر صعبا للغاية بالنظر إلى معارضة فرنسا الشديدة لذلك، بالرغم من مساندة المجموعة العربية الآسيوية في الهيئة الأممية لمساعيه، وذلك لأنّ الولايات المتّحدة الأمريكية لم تكن مستعدّة لإغضاب فرنسا حليفتها في مواجهة المدّ الشيوعي من خلال مساندتها مواقف حركة تحرّر وطني قد تنزلق يوما ما نحو الشيوعية، وبالتالي الأفضل أن تحافظ على الوضع القائم كما هو على أن تتحرّك في رمال متحرّكة قد تنزلق بها في متاهة لا تستقيم ولعبة الشدّ والجذب بينها وبين الاتحاد السوفياتي حتى وإن بيّنت هذه الحركة التحرّرية حسن استعدادها للدفاع عن مصالح الغرب والاصطفاف وراءه. وهنا لاحت اسرائيل كورقة يمكن استعمالها بالنسبة للباهي الأدغم في سعيه هذا خاصّة وأنّ تصويتها لفائدة استقلال ليبيا كان حاسما في هذا الاتجاه، إضافة وهذا هو الأهمّ إلى محاولة استغلال تأثير اليهود الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية حتى تغيّر هذه الأخيرة سياستها إزاء القضيّة التونسية وذلك من خلال إرساء قنوات اتصال تحسّسية مع ممثل دولة اسرائيل في الهيئة الأممية.
وقد تمكّن الباهي الأدغم في جوان 1952 من مقابلة جدعون رفائيل المفوّض الاسرائيلي في الأمم المتحدة وموردخاي نامير زعيم الفيدرالية الاسرائيلية للشغل (هيستدروت) بفضل مساعي السناتور الأمريكي هربرت ليمان والنائب الأمريكي أمانويل سالر. وقد ذكر جدعون رفائيل في تقريره إلى وزير الخارجية الاسرائيلي موشي شارات بتاريخ 25 جوان1952 أنّه تحدّث مع الباهي الأدغم عن الأحداث التي شهدتها تونس في منتصف الشهر الجاري إذ نهبت محلاّت لليهود وقتل صبيّ يهودي في حارة تونس، فلم يجد الأدغم حسب هذا التقرير بدّا من إبراء ذمّة الدستور الجديد من هذه الأحداث وإلصاقها بقوى «رجعية» تتكوّن من الدستور القديم والزيتونيين.
وكان اللقاء فرصة للباهي الأدغم كي يبرّر مواقف حزبه خاصّة حول دوافع التفاته إلى العرب إثر الحرب العالمية الثانية وأطنب في الحديث عن تبدّل النظرة تجاههم، فالجامعة العربية في نظره منظمة رجعية وتشقّها خلافات داخلية عميقة وسياسة الدستور الجديد هي دعوة العرب للتعاون مع الغرب والسلام مع اسرائيل، وذكر الأدغم أنّ الدستور الجديد مستعدّ لتطوير علاقات صداقة مع يهود تونس إن وصل إلى الحكم وسيسمح لهجرة اليهود إلى اسرائيل أو غيرها دون حدود، وأنّ دوائر الدستور الجديد تعرف أنّ العديد من يهود تونس يريدون الالتحاق بعائلاتهم التي استقرت باسرائيل، وأنّ هذا بديهي نظرا للاضطهادات التي تعرّض إليها اليهود في التاريخ وأنّ تونس المستقلّة وعلى عكس ليبيا لن تعرقل الهجرة وستعارض مقاطعة العرب السياسية والاقتصادية لاسرائيل، بل وستكون وسيطا بين العرب والاسرائيليين. وهنا، لا بدّ أن نذكّر أنّ هذا اللقاء تمّ في ظرف يعمل فيه الباهي الأدغم ومعه المجموعة العربية الآسيوية على تبنّي لجان الأمم المتّحدة قرارا بعقد جلسة طارئة للهيئة الأممية لبحث القضيّة التونسية، وبالتالي بات هاجس الباهي الأدغم هو عملية حسابية بسيطة تتمثل في جمع أكبر قدر ممكن من الأصوات حتى يمرّر مشروع هذا القرار. صالح بن يوسف في نيويورك : ''ريادة '' الدستور الجديد في الدعوة إلى حلّ '' واقعي '' لقضية فلسطين ! إثر ذلك، سيحلّ الزعيم صالح بن يوسف بنيويورك في شتاء 1952 سعيا منه لاستصدار قرار أممي لصالح تونس، وسيعطي استشهاد الزعيم فرحات حشاد الدفع اللازم لصدور قرار أممي يوم 17 ديسمبر 1952 مؤيّدا نسبيا لتونس بالرغم من معارضة فرنسا الشديدة له. وفي يوم 9 فيفري 1953 قابل ممثل اسرائيل في الهيئة الأممية جدعون رفائيل صالح بن يوسف في الأمم المتحدة وقد ادّعى جدعون أنّ الزعيم التونسي هو الذي طلب هذا اللقاء. وبيّن في تقريره إلى وزير الخارجية الاسرائيلي بتاريخ 18 فيفري 1953 أنّ صالح بن يوسف، وعلى عكس الباهي الأدغم، انتقد اسرائيل لعدم مساندتها المجموعة العربية الآسيوية، وذلك في الوقت الذي برز فيه الدستور الجديد كحركة التحرّر الوحيدة في العالم العربي التي اتخذت موقفا إيجابيا تجاه اسرائيل، وعندما أوضح جدعون أنّ مساندة اسرائيل لاستقلال ليبيا جلبت إليها ضررا أكثر من الفوائد تفهّم صالح بن يوسف نسبيا هذا الموقف الاسرائيلي، لكنّه أقرّ في المقابل بأنّ الدستور الجديد لا يمكنه الخروج عن صفّ الدول العربية التي ساندت الوطنية التونسية مثله في ذلك مثل الليبيين. ويمكننا أن نخلص هنا ووفق الرواية الاسرائيلية للقاء بأنّ الزعيم التونسي صالح بن يوسف لم يكن معارضا لفكرة الاتصال مع ممثلي الكيان الاسرائيلي، بل ولم يكن رافضا أصلا بدايات الموقف الدستوري الجديد من هذا الكيان وتصوّر الحلّ في الصراع العربي الاسرائيلي والذي تجلّى منذ أوائل سنة 1952 في تصريحات الزعيم الحبيب بورقيبة إلى بعض الصحف الفرنسية والداعية إلى إقامة علاقات حسنة مع اسرائيل. والظاهر أيضا أنّ ما كان يريده صالح بن يوسف هنا، هو أن تتصرّف اسرائيل على خلفية هذا الموقف فتعمل ما في وسعها لمساندة القضيّة التونسية واستعمال أدوات ضغطها في هذا الاتجاه، لهذا نراه يبادر في لقائه بالسفير الاسرائيلي إلى التعبير عن امتعاضه من الموقف الاسرائيلي السلبي تجاه القضيّة التونسية في المحفل الأممي.
تطابق يوسفي - بورقيبي في التعاطي مع '' اسرائيل ''
والأكيد أنّ صالح بن يوسف يدرك تمام الإدراك أنّ اسرائيل غير قادرة على إغضاب حليفتها فرنسا آنذاك التي تزوّدها بالعتاد.. وهي لا ترغب أصلا في ذلك، زد على ذلك أنّ هذه الاتصالات تتمّ بعلم فرنسا. ونرى هنا أنّ موقف صالح بن يوسف تجاه التحاور مع اسرائيل لا يختلف كثيرا عن موقف الزعيم الحبيب بورقيبة، وإن ثمّة اختلافات ففي التفاصيل وفي مدى هذا التحاور وإلى أيّ حدّ يتمّ التعبير عن التعاطف مع اسرائيل، والأكيد أنّ هذا الحدّ لا يصل إلى الحدّ الذي سمح الهادي نويرة لنفسه به. ولربّما هذا يدلّل مرّة أخرى على أنّ الزعيمين بورقيبة وابن يوسف لا يختلفان كثيرا في انتهاج الرؤى وفي وضع الاستراتيجيات، وفي الاتّسام بالواقعية والبراغماتية، فهما شبيهان ببعضهما البعض وإن اختلفا ففي التفاصيل، لكن قدر تونس أنّها لا تحتمل آنذاك «عملاقين» في حجم الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف.
ويمكننا أن نجد بداية لاختلاف في المواقف بين الزعيمين من خلال تقرير السفير الاسرائيلي، إذ عبّر صالح بن يوسف عن أنّ الوطنيين التونسيين لا يمكنهم نكران مساندة الدول العربية لهم وهذا بالذات ما لم يذكره الزعيم الحبيب بورقيبة في لقاءاته السرّية بالاسرائيليين، بل ذكر عكسه تماما أمامهم، وإن أظهر عكسه أيضا في تصريحات صحفية آنذاك. وفي هذا الإطار، لم تكن تصريحات الهادي نويرة إلى صحيفة «هآرتس» في أفريل 1953 مسقطة أو معزولة من السياق الحزبي، فهي بالعكس تنسجم مع هذا التوجّه لدى كلّ من صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة والباهي الأدغم، وإن كانت أكثر «تطرّفا» في التعبير عن مساندة اسرائيل دون مقابل وهذا هو الأهمّ، ولربّما هنا، لم يرق هذا الموقف إلى صالح بن يوسف.
دور الاشتراكي كوهين حضرية في التقريب بين التونسيين والاسرائيليين
ومع قرب استقلال البلاد التونسية، ستحاول دولة اسرائيل الاتصال بالتونسيين، لكن هذه المرّة من خلال أحد الزعماء الاشتراكيين المعروفين والناشطين بتونس إيلي كوهين حضرية والمعروف منذ أواخر عشرينات القرن الماضي بحساسيته المفرطة لأيّ أمر يتعلّق باليهود في تونس وفلسطين وكلّ العالم على حدّ السواء، وحدثت سجالات صحفية بينه وبين الوطنيين التونسيين حول هذه المسألة، كما أنّه يتمتع بعلاقات قويّة مع حزب ماباي الاسرائيلي الاشتراكي النزعة ومع مركزية العمّال هستيدروت. وقد اتّصل كوهين حضرية فعلا في صيف 1955 بكلّ من محمّد المصمودي الوزير في حكومة الطاهر بن عمّار الذي بدا مناورا ولم يخلص آنذاك إلى نتيجة معه، كما لاح العزيز الجلّولي الوزير في ذات الحكومة متردّدا ومحتاطا من ردود الفعل المشرقية والداخلية إن جازف بزيارة اسرائيل بالرغم من رغبته تلك.
وفد اسرائيلي في مؤتمر السيزل بتونس سنة 1957 بدعوة من أحمد بن صالح !
لكن، وحسب إيلي كوهين حضرية، كان لقاؤه مع الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أحمد بن صالح مثمرا، وقد برز من هذا التقرير إعجاب أحمد بن صالح بتجربة الكيبوتز الاسرائيلي الجماعي والموشافيم التعاضدي، وتوفّره على وثائق حول هذه التجربة، وقد عبّر خلال اللقاء عن استعداده لنشرها، وإن كان ما تضمّنه هذا التقرير صحيحا ولا يحتوي مبالغة أو افتراء ما، فلعلّ فَهْمَ بعضا من التجربة التعاضدية في تونس يمرّ من هنا. والمثير هنا، أنّ أحمد بن صالح طلب من إيلي كوهين حضرية أن يتصل بقادة هيستدروت كي يشكّلوا «لوبي» مساندا لرغبة تونس في استضافة مؤتمر السيزل على أرضها سنة 1957، واعدا في ذات الوقت باستدعاء وفد من الهيستدروت الاسرائيلي لحضور أشغال المؤتمر إن عُقد في تونس بالرغم من الاحتجاج المحتمل للوفود العمّالية العربية.
وقد ضمّن كوهين حضرية هذا كلّه في تقرير له إلى مارك جاربلوم في اسرائيل بتاريخ 27 أوت 1955 محفوظ حاليا في الأرشيف الصهيوني المركزي بالقدس تحت رقم أ /3 -.303 والمثير أكثر هنا أنّه تمّ الإيفاء بوعد أحمد بن صالح لإيلي كوهين حضرية واستدعيت اسرائيل في مؤتمر السيزل بتونس سنة 1957 وقد قاد وفد الهيستدروت أمين عام حزب ماباي الاسرائيلي شخصيا، وقد سمح التونسيون للوفد الاسرائيلي بالمشاركة في مداولات المؤتمر- على عكس ما ذكرته مجلّة جون أفريك أثناء تناولها لهذه النقطة بالذات في العدد 2329 - شريطة عدم رفع العلم الاسرائيلي ضمن بقيّة أعلام الوفود المشاركة. وقد ضمّنت هذه المعلومة في تقرير ممثل وكالة الهجرة اليهودية بتونس ماركوز إلى شراكاي بتاريخ 12 أوت 1957 المحفوظ في الأرشيف الصهيوني المركزي بالقدس .6009/6S


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.