لم تمر إلا بضعة أيام على الترفيع فيسعر الحليب عند الإنتاج بخمسين مليم حتى ارتفعت أسعار هذه المادة ومشتقاتها من يوغرت وزبدة الخ... عند البيع للمستهلك . وهي زيادة جديدة جاءت لتفرغ جيب المواطن البسيط بالخصوص من عامل وموظف صغير وطالب وعاطل عن العمل وتثقل كاهل ميزانية العائلات ذات الدخل المحدود . إرتفعت أسعار الحليب بعد أن لوحظ تراجع كبير في الكميات المعروضة للبيع وانطلقت الإشاعات حول أسباب اختفاء مادة الحليب من نقاط البيع وتردّدت بالخصوص تلك التي مفادها أن النقص في العرض يرجع إلى تصدير كميات هامة من الحليب نحو بلدين مجاورين . يبدو أنه وقع فعلا تصدير كمية من الحليب واليوغرت نحو ليبيا. لكن هذا لا يفسر لوحده نقص كميات الحليب المعروضة للبيع. إذ هناك أزمة في انتاج هذه المادة فعلا بعد أن كانت البلاد تشهد إكتفاءا ذاتيا منها بل فائضا في الإنتاج عجزنا في وقت ما عن الإستفادة منه بسبب إنعدام معامل لتجفيف الحليب ومنشآت التخزين. وأزمة الإنتاج ناتجة عن ارتفاع كلفة العلف وهي مادة يقع توريدها بالخصوص مما أدى بالعديد من المربين إلى مجابهة صعوبات في إشتراء العلف وأجبر البعض على نحر أبقاره. قبل الزيادة الأخيرة كان سعر اللتر الواحد عند الإنتاج لا يتجاوز 360 مليم . مراكز التجميع تشتري لتر الحليب بهذا السعر من المنتج لتبيعه للمركزيات المتخصصة في التعقيم والتعليب ب440 مليم فتتولى هذه الأخيرة بيعه للمواطن ب780 مليم كسعر أدنى وأكثر من دينار بالنسبة لبعض أنواع الحليب، في قطاع إنتاج الحليب يتضح اذن أن أكبر المستفدين هي المركزيات وعدد 8 ببلادنا منها 7 مؤسسات خاصة وواحدة فقط عمومية وهي شركة '' ستيل'' التي أضحى نصيبها من الإنتاج جد هامشي. كانت في تونس 3 مركزيات عمومية هي ''ستيل'' و''لينو'' و''حليب تونس'' فقررت الدولة الخصخصة وفتح القطاع للمبادرة الخاصة واليوم نرى النتيجة. الفارق بين سعر عند الإنتاج ( 410 م) وسعر البيع للمستهلك (830 م) للتر الحليب يبلغ 420 مليما ينتفع منه بالأساس المستثمرون الخواص وشركات أجنبية متعاملة معهم. لم تكن خصخصة المركزيات أمرا ضروريا ولا حتميا ولا مجديا اقتصاديا وإجتماعيا وكان إجراءا له خلفية إيديولوجية (القضاء على كل ما هو ملك عام) ويدخل ضمن النظرة الليبرالية التي تطالب من الدولة أن تكف عن التدخل في قطاع الإنتاج وتركه للخواص محليين كانوا أم أجانب . سؤال مطروح بإلحاح هل للدولة سياسة واضحة في قطاع الحليب؟ هل لنا تصور لحل تبعية المنتج التونسي تجاه العلف الأجنبي؟ أليس هناك حلول استنادا على العقل التونسي وطاقات البلاد وإمكانياتها ومخزونها تمكّن مربي الأبقار من توفير حاجياتهم من العلف بأسعار معقولة فتجنب قطاع تربية الأبقار الهزات وقطاع الحليب الأزمات ونخفف من انخرام توازن الميزان التجاري وميزان الدفوعات؟ العاملون بالقطاع وكذلك الخبرات التونسية الفلاحية تؤكد أن كل ذلك ممكن ويكفي أن تشركهم الدولة بلورة خطة بعيدة المدى تحقق فعلا الإكتفاء الذاتي والأمن الغذائي وتجنب البلاد الحلول السهلة مثل مواجهة تراجع العرض عن طريق توريد الحليب من الخارج. هذا الحل وإن يمكن مؤقتا من تجاوز الأزمة لكنه سيسمح للموردين الخواص من الإثراء ويسبب هدرا للعملة الصعبة . والسؤال الأخير قبل ختم هذا المقال : متى ستفكر الدولة في الزيادة في أجور العمال والموظفين وفي جرايات المتقاعدين والأرامل والأيتام؟ وهل أن هذه الزيادة إن تقررت ستمكن الطبقات والفئات الشعبية من تدارك تدهور مقدراتها الشرائية ومواجهة الزيادات المقبلة المتوالية ؟