لقد كثر خلال الأيام الأخيرة اللغط والسخط على شاب كلّفوه بتعليم أطفال في إحدى المدارس الريفية المنسية بسبب ما ارتكبه من أخطاء فادحة تفضح قلة كفاءته لدرجة لم يكن البعض يتصورها. لقد كان لمعدّ البرنامج التلفزي شرف كشف حقيقة تتجاوز الحالة المعزولة لمدرّس شاذ في مدرسة معزولة، لتمسّ في الصميم منظومة التعليم في تونس. وهي حقيقة كارثية بالفعل تكشف حقائق أخرى لا تقل كارثية حول سوء اشتغال منظومة التعليم وتدني مستوى منتوجها وخطورة انعكاساتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأخلاقية. ولكنها حقيقة قديمة منذ سنوات طوال وسبق للكثيرين أن صدعوا بها وأطلقوا صيحات فزع بقيت مبحوحة وبقي الداء يستفحل أكثر فأكثر. لقد نُشرت عديد المقالات (أذكر على سبيل المثال مقالا كنت نشرته سنة 2012 في جريدة «المغرب» تحت عنوان «المدرسة التونسية تستغيث» وآخر في جريدة «الصباح» تحت عنوان «إصلاح المنظومة التربوية مهمة وطنية كبرى لا تتحمل التأجيل») ونُظّمت عديد الندوات واللقاءات قيل فيها الكثير عن العلل المستفحلة في المنظومة التربوية ودُقّت فيها نواقيس الخطر ولكن لم يكن لها صدى يذكر مقارنة بالصدى المُدوّي الذي أحدثه البرنامج التلفزي «يوميات مواطن». لكن في أي اتجاه ذهب هذا الصدى؟ من المؤسف جدا أن يصوّب الكثيرون اهتمامهم واتهاماتهم إلى ذاك المعلم وأمثاله من المعلمين في مدارسنا (إن لم نقل كل المدرسين) محملين إياهم مسؤولية ما آلت إليه مدارسنا وكأنهم هم أصل الداء. لقد سقط العديد من الإعلاميين في عديد الإذاعات والقنوات التلفزية مع العديد ممن يستضيفونهم (فضلا عن عامة الناس في صفحات الفايسبوك) في فخ الشجرة التي تُغطي الغابة وفي لعبة خطيرة تزيد في مسخ صورة المدرسة العمومية (لفائدة المدارس الخاصة لا محالة) عبر مسخ صورة المدرس لدى الرأي العام. صحيح أن المعلم النائب، الذي شاءت الصدف أن فاجأه «مُتلبسا» فريق تلفزي لقناة ذائعة الصيت، قد قام بأخطاء تفضح ضحالة مستوى تَملّكه للغة الفرنسية الموكول له تدريسها. وهي أخطاء صدمت لأول مرة الكثيرين ولكنها لم تعد تصدم، لكثرة تكرارها، العارفين بحقيقة مستوى أغلب خريجي الجامعة التونسية (التي تحتل رتبة مخجلة في التقييم العالمي منذ سنوات) وكذلك وبصفة خاصة المتفقدين المباشرين في المدارس والإعداديات والمعاهد. هناك أعداد غفيرة من حاملي الأستاذية أو الإجازة في السنوات الأخيرة (ومن بينهم من وقع انتدابهم لتعليم أبنائنا) لا يتوفر فيهم الحد الأدنى من الكفاءة المطلوبة وقد عاينت شخصيا عديد الحالات الصادمة حين كنت أباشر مهنة التفقد طيلة أكثر من 12 سنة، أو حين كنت أشارك في لجان تقييم المترشحين لمناظرة الكاباس وهي حالات شبيهة بحالات أخرى كثيرة عاينوها زملائي المتفقدين. ولم نكن قادرين (ولا نزال) سوى على تحرير تقارير في الغرض نكشف فيها واقع الحال ثم تذهب أدراج الرياح. والأدهى والأمرّ هو ما يحصل للمتفقد الحازم حين يتخذ موقفا صارما ضد الرداءة وقلة الكفاءة من ردود أفعال عنيفة وحملات تشويه واستعداء من طرف نقابيين انخرطوا في الدفاع عن الرداءة بتعلة انصر أخاك ظالما أو مظلوما، خدمة لمصالح قطاعية أو شخصية ضيقة. ولكن الأهم والأدهى من كل هذا هو عدم طرح الأسئلة الجوهرية في خضم الحملة الأخيرة التي طغى فيها اللغط والتنبير على المعلم السيئ الحظ ومن ورائه المدرسين قاطبة والمدرسة العمومية في تونس: أليس هذا المعلم نموذجا من منتوج المدرسة والمعهد والجامعة في تونس، واحدا من شبابنا الذين جنت عليهم منظومة تعليمية فاسدة منذ زمان، وكأننا نحاسب الضحية على ما اقترفه الجلاد ونُحوّلها إلى كبش فداء وبذلك نساهم بوعي أو بغير وعي في تواصل الجريمة في حق أبنائنا وفلذات أكبادنا وفي حق مستقبل بلادنا؟ أليس هذا المعلم المسكين حريّا بالرأفة والشفقة وهو الذي ألقوا على عاتقه مهمة ضخمة لم يُعدّوه لها كما ينبغي، مثل من رموا به في ساحة الوغى بلا سلاح؟ هل أن منظومة تكوين المُدرّسين تشتغل بصفة تضمن الحد الأدنى على الأقل من الكفاءة العلمية والبيداغوجية تجعلنا نطمئن على مصير الأجيال القادمة وعلى حسن استثمار أهم وأكبر مخزون في بلادنا وهو مخزونها البشري؟ ما هي حقيقة الدور والمسؤولية في إخفاق أو نجاح المدرسة التي يتحملها كل طرف من الأطراف المتداخلة في العملية التربوية: سلطة الإشراف، نقابات التعليم، المدرسون، الأولياء، العائلة، وسائل الإعلام...؟ هل أن إصلاح التعليم في تونس يتحمل الانتظار أكثر ومحكوم عليه أن يبقى رهينا لتصفية حسابات سياسوية وفئوية ضيقة؟ هذه الأسئلة وغيرها مما يحيلنا إلى مكامن الداء قلّما يقع التركيز عليها والبحث فيها. وينخرط القوم في عملية سحل إعلامي لمعلم مسكين طلبوا منه أن يعطي ما لا يملك. ويبقى الحبل على الغارب وتتواصل الجريمة في شكل مهزلة. بشرى لك يا تونس فنُخبكِ لها من الحكمة والذكاء ممّا يجعلها قادرة على إنقاذك من مرضك العضال. بقلم: عبد اللطيف معطر (*)