ننتظر منذ بضع سنوات ما ستسفر عنه الاصلاحات التي ستطور المنظومة الجامعية التونسية لكن إلى اليوم لم يصدر عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ما يفيد الوصول إلى بلورة تلك الاصلاحات وترجمتها في برامج من شأنها تطوير التعليم العالي وخاصة من حيث تمكين الطلاب من تكوين يجعل اندماجهم في سوق الشغل الوطنية أو العالمية سهلا ويغذي سجل الموارد البشرية الوطنية بخريجين متكونين تكوينا متخصصا ومتفاعلا مع التوجهات الجديدة في سوق المهن. الخريج التونسي والتعليم التقليدي لا يزال المتابعون للتعليم الجامعي يلاحظون طغيان التكوين في الاختصاصات التقليدية على الاختصاصات المستجدة، مما أدى إلى تفاقم حجم البطالة في صفوف الحاصلين على الشهادات الجامعية. فمن جهة يعلم الجميع أن هناك اختصاصات تخرج «البطًالة» ومع هذا هم مصرون عليها ويتم توجيه الحاصلين على الباكالوريا إليها بأعداد كبيرة بل ولا يزال الطلبة المسجلون في تلك الاختصاصات يدرسون نفس البرامج منذ عدة سنوات دون تطوير. ومن جهة أخرى هناك عدم تركيز على بعض الاختصاصات التي تجد طلبا على خريجيها في سوق الشغل. وأدى ذلك إلى عدم التوازن في أصناف الخريجين وطلبات سوق الشغل. وفي دراسة أعدتها الوكالة التونسية للتشغيل تبين أن عديدة هي الاختصاصات التي تبحث عنها سوق الشغل التونسية ومتوفرة لها فرص عمل لكنها لا تجد خريجين لتغطية تلك الفرص التي تبقى شاغرة، وفي المقابل كثيرة هي أيضا طلبات الشغل التي يقدمها الخريجون لكنها لا تلقى استجابة من ارباب العمل في القطاعين الخاص والحكومي بسبب عدد الطلبات الذي تفوق بكثير فرص العمل المتاحة. تغيير التوجهات ومواكبة العصر أصبح من الواضح اليوم أن التشبث بالتعليم الجامعي التقليدي وبتوجهاته واختصاصاته وبرامجه لن يساعد على حل مشكلة بطالة أصحاب الشهادات العليا بل بالعكس من ذلك سيزيد في تفاقمها. وإذا لم نسرع في إجراء التغييرات التي تفرضها علينا سوق الشغل الوطنية والتوجهات المستقبلية للمهن في العالم فإننا سنجد أنفسنا خلال السنوات القادمة خارج دائرة المنظومات الجامعية التي يعتدُ بخريجيها. فمن حيث الاختصاصات الجامعية المتوفرة اليوم في التعليم الجامعي التونسي، من الضروري دراسة سوق الشغل الوطنية والتركيز على الاختصاصات التي تطلبها أو التنسيق مع أرباب العمل لخلق مهن جديدة أو تطوير مهن موجودة بإكسابها مهارات جديدة أو تكييف بعض الاختصاصات الحالية لتلبي تلك الطلبات. وبالمقابل يتم الاستغناء مؤقتا عن الشعب والاختصاصات الجامعية التي لا آفاق تشغيلية لها لتزدهر من جديد وتطلبها سوق الشغل. وهذا إجراء معمول به في عدة منظومات جامعية وأثبت نجاعته. أما من حيث ما يجري في العالم اليوم من تطورات في سوق الشغل فمن الضروري مواكبتها بكل دقة. فمن جهة هناك مهن بدأت تنتشر اليوم في الولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة وفي بعض الدول المتقدمة لا نجد صدى لها في تعليمنا العالي وبالتالي ليس لدينا خريجين قادرين على ممارستها لأنهم لم يتكونوا فيها. ومن جهة أخرى ستظهر مهن جديدة أخرى في عدة قطاعات في السنوات القادمة تتوقع الدراسات المستقبلية انتشارها بحكم تأثير التطورات التكنولوجية والاقتصاد الرقمي وبسيطرة الذكاء الاصطناعي. وتلك المهن ستواكب الجيل القادم (ما بين 30 و 35 سنة القادمة). وقد حددت تلك الدراسات عددا هاما من تلك المهن وبدأت بعض المنظومات الجامعية في إعداد طلبتها لذلك كما عددت المهن المزدهرة اليوم والتي ستضمحل خلال تلك الفترة. وتقدر الدراسات أن ما يزيد عن نصف المهن المعروفة حاليا سيضمحل. كل هذا يدعو إلى أن يستعد تعليمنا الجامعي لتلك الفترة منذ الآن وأن يطور اختصاصاته وبرامجه لتواكب التحولات العالمية القادمة في سوق الشغل.