اختارت الحكومة في الفترة الأخيرة المضي قدما نحو اتخاذ عديد القرارات ذات البعيدين الاقتصادي والاجتماعي بشكل منفرد بصم آذانها عن صيحات الفزع والرفض والتنديد التي يطلقها بين الفينة والأخرى شركاؤها الاجتماعيون (اتحاد الشغل، اتحاد الأعراف) والمعارضة، والمجتمع المدني.. وتندرج القرارات الحكومية في خانة تنفيذ الإصلاحات الموجعة التي طالما نادى بها صندوق النقد الدولي، على غرار الترفيع المتكرر في أسعار المحروقات، تجميد مفاوضات الزيادة في الأجور، عدم الترفيع في الأجر الأدنى المهني المضمون ورفض دفع مستحقات المتقاعدين، المصادقة على حزمة إصلاحات للصناديق الاجتماعية خلال الأسبوع الماضي تتضمن ترفيعا في سن التقاعد وفي نسبة المساهمات وتغييرا في طريقة احتساب نسبة المساهمات.. وغيرها من الإصلاحات الأخرى.. مرور الحكومة إلى السرعة الخامسة لم يكن من فراغ، إذ ليس من باب الصدفة أن تكون هذه القرارات المتواترة ظرفيا والمتقاربة زمنيا متزامنة مع توقف فجئي للمفاوضات السياسية المتعلقة بوثيقة قرطاج 2 ( تم تعليقها في مطلع جوان) والتي تم فيها الوصول إلى طريق مسدود في النقطة المتعقلة بالإبقاء على رئيس الحكومة من عدمه او الاكتفاء بتحوير حكومي جزئي.. علما ان صندوق النقد بعث خلال هذه الفترة بإشارات مبطنة من خلال تواتر بياناته الصحفية بشأن تونس مفادها أن عدم الاستقرار السياسي من شانه أن يضعف من وتيرة الإصلاحات الكبرى التي التزمت بها تونس منذ عهد حكومة الحبيب الصيد. وبدا جليا أن «هروب الحكومة إلى الأمام» ليس خيارا بقدر ما هو اضطرار، او لنقل تخوف من أمرين: الأول من تواصل انهيار مؤشرات الاقتصاد الكلي التي فاقت التوقعات وتجاوزت الخطوط الحمراء ( تواصل ارتفاع نسبة التضخم 7.7 بالمائة، انهيار الاحتياطي من العملة، تواصل انهيار الدينار امام العملات الرئيسية، تواصل ارتفاع أسعار النفط عالميا..) إذ لم تجد الحكومة بدّا من المرور إلى تنفيذ حزمة من الإصلاحات الكبرى التي صادقت عليها ووعدت بها تفاديا من الأسوإ رغم عدم وجود توافق واضح بشأنها مع اتحاد الشغل، واتحاد الأعراف وأيضا مع من بقي من داعمي الحكومة من أحزاب سياسية فضلا عن طيف واسع من المعارضة.. والأمر الثاني قد يكون «امتثالا» لتوصيات صندوق النقد واستباقا لقراراته المرتقبة بشأن النظر في اسناد القسط الرابع من القرض الممدد مع تونس. المرور إلى التنفيذ دون توافق فهل اختارت الحكومة الحل الصعب وقررت إنقاذ الاقتصاد الوطني والمالية العمومية من الانهيار دون انتظار استكمال مفاوضات مضنية وشاقة وطويلة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لم تعط اكلها منذ أشهر عديدة. ام هي «رضخت» لتوصيات صندوق النقد التي أصبحت في بياناتها الأخيرة أشبه ب»تعليمات وتهديدات مبطنة منها إلى مجرد توصيات..؟ خاصة أن اجتماعا حاسما ومرتقبا قد يعقده مجلس ادارة الصندوق بشأن تونس لاتخاذ قرار بالإفراج عن القسط الرابع من القرض الممدد مع تونس علما أن الحكومة تعول كثيرا على القسطين لضمان سيولة مالية لتسديد ديونها الخارجية والتخفيف من عجز الميزانية وتحسين مستوى الاحتياطي من العملة الصعبة.. وكان اتحاد الشغل (يطالب بتحوير شامل للحكومة بما فيها رئيس الحكومة) من أكثر الرافضين والمنددين بسياسة الحكومة في مجال الترفيع المتواصل خاصة في أسعار المحروقات واتهمها بالتنصل من التزاماتها السابقة في مفاوضات الزيادة في الأجور، كما عبر عن رفضه لإقرار الحكومة لمشروع قانون الترفيع في سن التقاعد وأيضا لمشروع اصلاح قانون الوظيفة العمومية. على وقع بيانات الصندوق.. وتأتي المستجدات الأخيرة (الترفيع في أسعار البنزين للمرة الثالثة خلال 2018، ارتفاع نسبة التضخم، ترفيع البنك المركزي للفائدة المديرية ب100 نقطة أساس..) على وقع تداول أخبار عن إمكانية رفض صندوق النقد صرف القسط الرابع والمقدر ب 257 مليون دولار والمقرر في آخر الشهر الحالي والنظر في شأنه لاحقا، بعد أن شهد القسط الثالث تأخرا في صرفه الذي تم في شهر ماي الفارط عوضا عن فيفري 2018، علما أن الصندوق أسند الى تونس 3 أقساط مجموعها 2192 مليون دينار. وكان أعضاء مجلس إدارة صندوق النقد قد دعوا في بيان اصدره الصندوق يوم 12 جوان السلطات التونسية الى دعم "التزامها بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية واتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة لضمان تعافي المالية العمومية والحد من التضخم وتراجع الاحتياطي من العملة الى جانب ضمان استقرار الاقتصاد الكلّي". وأشار الى استكمال مجلس الإدارة المشاورات مع تونس بالنسبة لسنة 2017، ودعا السلطات للشروع في تطهير الميزانية. وقال:» من الضروري ان تعطي إجراءات التطهير الأولوية للزيادة في العائدات الجبائية والحد من النفقات الجارية وذلك بغاية دعم نفقات الاستثمار والنفقات الاجتماعيّة". كما أوصى بدعم تحصيل الضرائب وتنفيذ عمليات المغادرة الطوعية للعاملين في الوظيفة العمومية وتفادي أي زيادات جديدة في الأجور إذا لم يتجاوز النمو التوقعات المرسومة الى جانب تطبيق زيادات في أسعار المحروقات كل ثلاثة اشهر. كما أصدرت بعثة الصندوق في ختام زيارتها لتونس بيانا في 30 ماي 2018، أكدت ضرورة أن تتخذ تونس إجراءا حاسما هذا العام لمكافحة التضخم وخفض العجز في المالية العامة، وحماية الفقراء.. يذكر أن اتحاد الشغل ندد في بلاغ اصدره أول امس «بالزيادة الحاصلة في المحروقات والزيادات اللاحقة المبرمجة التي أملتها الدوائر المالية العالمية على الحكومة، معتبرا أنّها لن تزيد إلاّ في إثقال كاهل عموم الشعب وتأزيم وضع المؤسّسات الاقتصادية التونسية وإدخال البلاد في دوّامة زيادات ستعمّق تدهور المقدرة الشرائية لعموم الشعب وفِي تسريع وتيرة التهريب والسوق الموازية وتوسيع نطاقهما.» وحذّر الاتحاد من أي إجراء إضافي سيؤدّي إلى رفع أسعار المواد الأساسية بما فيها المواد المدعومة والأدوية والخدمات الاجتماعية ويعتبر الإقدام عليها عاملا مباشرا لمفاقمة التوتّرات، محمّلا الحكومة وكلّ الأطراف المتداخلة مسؤوليتها في ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في البلاد وخاصة في تفاقم التوتّر الاجتماعي معبّرا عن الدفاع عن الحقّ في الاحتجاج بكلّ الطرق السلمية. وأدان البيان ما اعتبره «سياسة خرق الاتفاقيات وضرب المفاوضات الاجتماعية واعتبر تهرّب الحكومة من تطبيق ما يتم الاتفاق عليه خرقا للدستور وللمواثيق الدولية ولسنة الحوار الاجتماعي المعتادة والمدرجة في العقد الاجتماعي، وجدّد تمسّكه بالإسراع بإنهاء المفاوضات الاجتماعية في القطاع العام وفِي الوظيفة العمومية وأيضا في القطاع الخاص للوصول إلى اتفاقات مجزية تعالج ولو نسبيا تدهور المقدرة الشرائية للأجراء وتشجّع على الطلب في ظلّ ركود التصدير وتراجع الاستثمار..