«لقاء باريس: الدروس والتحديات والآفاق» هكذا اختار زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أن يعنون «تدوينة» مطوّلة ومثيرة للانتباه وللجدل، نشرها أمس على صفحته الرسمية و»أحيا» من خلالها الذكرى الخامسة للقاء باريس.. ذلك اللقاء المثير الذي جمع ذات صيف متأزّم ومنذ خمس سنوات والبلاد تعيش حالة من الفوضى السياسية وتقف على شفا الهاوية، زعيم حركة النهضة التي كانت تقود ائتلاف «الترويكا» الحاكم والباجي قائد السبسي زعيم جبهة الإنقاذ المعارضة وقتها، وأعاد صياغة المشهد الوطني وفق قواعد جديدة للعبة السياسية مبنية على مبدأ الحوار والتوافق الذي حرص كل من قائد السبسي والغنوشي على تكريسه حتى بعد إجراء انتخابات ديمقراطية بالتحالف الحكومي.. ورغم أن ذلك اللقاء مازال يكتنفه الغموض والكثير من ملابساته وحيثياته التي حفّت بلقاء باريس أو اللقاء المعروف ب»لقاء الشيخين» إلا أنه أرسى مسارا توافقيا جنّب البلاد الكثير من الصدام ومن الاحتقان ومن تعطيل مشاريع القوانين وهو المسار الذي تم تكريسه من خلال اتفاق قرطاج الذي كان بمبادرة من رئيس الجمهورية وأنتج بعد ذلك حكومة الوحدة الوطنية . هذا المسار التوافقي الذي تعثّر في الأشهر الأخيرة في عدّة مناسبات بعد الانتخابات التشريعية الجزئية بدائرة ألمانيا الانتخابية، وبعد تعليق العمل بوثيقة قرطاج وتمسّك حركة النهضة بحكومة الشاهد وبعد الانتخابات البلدية وخسارة نداء تونس، عاد أمس راشد الغنوشي لينفخ الروح فيه من جديد وينفض عنه الغبار في تذكير «مباغت» وغير متوقّع ببدايات هذا المسار التي انطلقت منذ لقاء باريس. محاولة لإنعاش التوافق منذ أشهر قليلة، تعمّد راشد الغنوشي إحراج «حليفه التوافقي» نداء تونس بالتمنّن عليه والقول ان حركة النهضة طالما قدمت تنازلات في السابق خدمة للمصلحة الوطنية ولن تقدّم اليوم مزيدا من التنازلات في تهديد واضح لسياسة التوافق بين الحزبين، وذلك على خلفية قرار رئيس الجمهورية بتعليق العمل بوثيقة قرطاج بعد تمسّك الحركة بعدم تغيير رئيس الحكومة يوسف الشاهد واقتراحها تحوير وزاري واسع عوض تغيير الحكومة. لكن اليوم يعود راشد الغنوشي للتأكيد في «تدوينته» على «الالتزام التام بخيار التوافق مع رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي واعتباره الإطار الأمثل للحوار حول كل القضايا للوصول الى حلول وبدائل وتوافقات». موقف ردّ عليه القيادي بحركة نداء تونس برهان بسيّس أمس بالقول انه «موقف جديد للغنوشي الذي كان يتحدّث منذ شهرين على كون حركة النهضة كانت ضحية للتوافق» وفق تعبيره مؤكّد في ذات السياق أن نداء تونس هو من دفع فاتورة غالية لهذا التوافق وأنه هو من كان الخاسر بالمنطق الحزبي الضيّق، وفق تعبيره. ولم يتوقّف الأمر عند برهان بسيّس بالمزايدة على من كان ضحية أكثر من غيره لهذا التوافق بين نداء تونس وحركة النهضة بل ذهب إلى التلميح بأن تغير بعض موازين القوى إقليميا ودوليا هو ما دفع براشد الغنوشي إلى محاولة إحياء هذا التوافق الذي بدأ «يحتضر» بين النداء والنهضة، بقوله حرفيا في تصريح لإذاعة «جوهرة» أف أم أمس «النهضة.. شمّت شوية شهيلي في علاقة بتغييرات متعلّقة بالليرة والدولار وترامب فعادت لتبحث عن التوافق». تصريح يشير بوضوح إلى كون التوافق بدأ يُنازع رغم تدوينة راشد الغنوشي ومحاولته منح هذا التوافق «جرعة أوكسجين» هذا التوافق الذي قال عنه بسيّس انه كان خيارا من طرف رئيس الجمهورية لم تفرضه عليه «سفارة ما» ولا دولة أجنبية، في تلميح يحمل في طياته اتهاما صريحا لحركة النهضة بأنها دُفعت مرغمة الى التوافق منذ 2013 خوفا من ضغط بعض القوى الدولية وخوفا من مصير الإخوان المسلمين في مصر. ولئن أكّد الغنوشي سعادته في تدوينته بفوز النهضة في الانتخابات البلدية مع محاولته طمأنة حليفه نداء تونس بأن هذا الفوز لن يتحوّل إلى مصدر لإرباك توازنات المشهد القائم، أو مبعثًا لغرور وتغول» إلا أن نداء تونس ومن خلال المحاولات الأخيرة لتجميع صفوفه وترميم شقوقه من خلال تشكيل تحالف سياسي وانتخابي سيعلن عنه بداية سبتمبر بين النداء والأحزاب التي انبثقت عنه بعد مغادرة القيادات المؤسسة، استشعر بالفعل خطورة فوز حركة النهضة على مستقبله السياسي ونحن على أبواب انتخابات 2019 الحاسمة. ورغم أن راشد الغنوشي حاول من خلال «التدوينة» تقديم ضمانات تثبت تمسّك الحركة بالتوافق وذلك من خلال تأكيده على أن النهضة مع مبادرة رئيس الدولة حول الإرث حين تقدم رسميا الى البرلمان وذلك «بما تقتضيه من الحوار والنقاش للوصول إلى الصياغة التي تحقق المقصد من الاجتهاد وتجعل من تفاعل النص مع الواقع أداة نهوض وتجديد وتقدم لا جدلا مقيتا يفرق ولا يجمع» وفق تعبيره، في محاولة أخيرة لإثبات «حسن النية» رغم معارضة أنصار الحركة الشديدة لمقترح رئيس الجمهورية وتجييش الشارع ضدّ مقترح المساواة في الإرث. الحكومة.. مرّة أخرى علّل راشد الغنوشي في «تدوينته» دعوته إلى الاستقرار الحكومي بقوله إنها «لم تكن متعارضة مع خيار التوافق مع رئيس الجمهورية أو بحثا عن أُطر بديلة عنه بل تقديرا للمصلحة الوطنية» مضيفا أنه لم يكن من «الممكن تغيير حكومة في ذروة الانتخابات البلدية وقبل ان تستلم المجالس المنتخبة مسؤوليتها، ولا في ذروة الحوار مع المؤسسات الدولية المانحة، ولا في ذروة الموسم السياحي في ظل تهديدات إرهابية لا مجال لمواجهتها بحكومة تصريف أعمال، ولا قبل فترة قصيرة من الأجل الدستوري لإيداع قانون المالية القادم في مجلس نواب الشعب» مؤكّدا على أن «تحديات المرحلة القادمة تقتضي تفرغ الحكومة لمهمتها في التنمية ومحاربة الفساد بعيدا عن التجاذبات الانتخابية والحزبية». وهو ما أعاد إلى الأذهان طلب الغنوشي السابق من يوسف الشاهد أن يتعهّد بعدم الترشّح لانتخابات 2019 خاصّة وأن مساندة ودعم حركة النهضة ليوسف الشاهد ولمواصلة عمله على رأس الحكومة في تحدّ حتى لإرادة رئيس الجمهورية الذي طالب الشاهد صراحة بالاستقالة أو بالذهاب إلى البرلمان لتجديد الثقة في حكومته، أثارت جملة من الانتقادات من طرف قيادات حزب نداء تونس كما أربكت علاقة حركة النهضة برئيس الجمهورية الى درجة بلغت اتهام برهان بسيّس أمس لنواب حركة النهضة ب»النميمة البرلمانية» بكشفه أن نواب النهضة أرادوا التأثير على نواب كتلة النداء في البرلمان بالقول ان الباجي قائد السبسي «انتهى» وبأن يوسف الشاهد هو «الورقة الرابحة» وأكّد برهان بسيّس في ذات التصريح أن «حركة النهضة استضعفت رئيس الجمهورية.» وهذه الردود «الغاضبة» من طرف القيادي في نداء تونس برهان بسيّس تعكس وتكشف عن مدى توتّر العلاقة بين النهضة والنداء، توتّر انعكس على سياسة التوافق بين الحزبين ودفع بهما إلى التصادم أكثر من مرّة ويبدو أن تدوينة الغنوشي لن تستطيع إذابة الجليد حول هذا التوافق ..