إمعانا في سياستها العوجاء المرتهنة كليا للقيادات السياسية والعسكرية المتطرفة في الكيان الاسرائيلي، خطت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطوة إضافية على طريق انتهاك المبادئ والقيم التي أرستها المجموعة الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية للحيلولة دون تجمع ذات الأسباب التي أنتجت تلك المأساة المروعة. لم يكف هذه الإدارة التي أبرزت منذ صعودها إلى سدة السلطة استهانة غير مسبوقة بالقوانين والنواميس التي تحكم وتنظم العلاقات الدولية، والتي كانت الولاياتالمتحدة طرفا رئيسيا في صياغتها وإرسائها، أن تخرق الاجماع الدولي على اعتبار القدس الشرقية بمسجدها الأقصى أرضا محتلة يتوجب إعادتها إلى الفلسطينيين، فأعلنت اعترافها بها رسميا عاصمة للكيان الاسرائيلي الغاصب والخارج عن الشرعية الدولية، بل تجاوزت ذلك إلى ممارسة أسلوب المساومة الرخيصة والابتزاز السمج على الدول الأعضاء في الأممالمتحدة من أجل إرغامها على عدم التصويت على قرارات تكرس العدالة الدولية. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى استخدام سلاح قطع التمويل عن مؤسسات الأممالمتحدة المعنية بتنفيذ تلك القرارات على غرار منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» والتسبب في تعطيل خدماتها ومزيد تجويع سكان المخيمات في قطاع غزة والضفة الغربية وباقي أنحاء العالم، ثم إلى وقف كل أشكال المساعدات الأمريكية المرصودة سابقا إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وأخيرا إلى إغلاق الممثلية الفلسطينية في واشنطن وإلغاء تأشيرات إقامة السفير الفلسطيني وعائلته وطردهم من الولاياتالمتحدة خلافا للتقاليد الديبلوماسية. إجراءات لا شرعية ولاأخلاقية في الوقت نفسه من رئيس دولة عظمى يفترض أنها معنية أكثر من أية دولة أخرى بإعلاء شأن القوانين والمبادئ الدولية وفرض الالتزام بها واحترامها، وهي بالتالي مدانة وتستوجب التصدي لها بمنتهى القوة والحزم، ليس من جانب الفلسطينيين فقط، الطرف المستهدف والمتضرر مباشرة من هذه الممارسات، بل من جانب كامل مكونات المجتمع الدولي بما في ذلك الأطراف العربية الغنية والتي تملك القدرة على تعويض التمويل المالي الأمريكي المسحوب للمنظمات والهيئات الدولية المعنية بدعم القضية الفلسطينية. ترامب أعلنها حربا على الفلسطينيين وقياداتهم السياسية لأنهم رفضوا الانصياع للتصور الموغل في الظلم والبعد عن العدالة والحق الذي طرحه، والذي أطلقت عليه تسمية «صفقة القرن»، بدغع وتحريض من بنيامين ناتنياهو رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي اليميني المتطرف المعادي للسلام واستحقاقاته، ومن زمرة المتصهينين المحيطين به من وزراء ومستشارين، ولسان حاله يقول أنهم سيرغمون في نهاية المطاف على رفع الراية البيضاء والاستسلام لمشيئته وخطته، وهو يثبت بذلك جهله المدقع بقضية الصراع العربي الاسرائيلي، وسذاجته في نفس الوقت. فبمراجعة بسيطة لمعطيات هذا الصراع وتفاصيل مجرياته كان باستطاعة الرئيس ترامب وإدارته أن يدركوا أن الفلسطينيين لم يساوموا قط على حقوقهم المشروعة المعترف بها دوليا، وهم اليوم أكثر من أي وقت آخر تمسكا بتلك الحقوق مهما كان الثمن، ومهما كانت الضغوطات أو المغريات.