أعلن أول أمس عن تأسيس حركة أو جمعية اختار مؤسسوها أن يطلقوا عليها اسم «حماة تونس»، واللافت في البلاغ المعلن عن التأسيس وما جاء أيضا على لسان رئيس الجمعية أن الهدف هو تكوين شبكة موسعة «من المواطنين التونسيين الراغبين في ممارسة مواطنتهم خارج أطر الأحزاب السياسية التي أثبتت عدم قدرتها على مواكبة المرحلة التاريخية». ويضيف أصحاب مشروع جمعية «حماة تونس» أن غايتهم انقاذ الوطن لأن تونس جديرة بما هو أفضل وأنهم عازمون على تشكيل قوة اقتراح فاعلة في المشهد السياسي لحل مشاكل البلاد بعد أن عجزت الأحزاب والطبقة السياسية عن ذلك. يطرح هذا الخيار تساؤلا محوريا حول مدى وجاهة تقديم المجتمع المدني اليوم كبديل عن الأحزاب لتغيير المشهد السياسي وانقاذ البلاد. ولماذا ظل هذا المجتمع المدني على امتداد سنوات الانتقال الديمقراطي نقطة الضوء الوحيدة في عتمة الخيارات الحزبية والسياسية الخاطئة؟ المتأمل في فحوى خطاب القائمين على فكرة «حماة تونس» يجد أنه نابع من صميم الواقع الراهن لأنه ينسجم مع شعور عام مفاده اليأس من الطبقة السياسية الحالية ومن الأحزاب يمينها ويسارها ومن قدرتهم على تقديم الحلول لوضع متأزم يزداد ضبابية وترديا بمرور الوقت ولا أحد يرى موعدا قريبا لنهاية النفق. بل الجميع أصبحوا يعبرون صراحة عن مخاوفهم على مستقبل البلاد محملين السياسيين المسؤولية كاملة في ما آل إليه الوضع. وصدرت هذه التقييمات والتحذيرات حتى من أكثر المحمولين على واجب التحفظ ولعل ما جاء مؤخرا على لسان وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي خلال تأبين أحد الجنود من تحميل للمسؤولية للسياسيين أبرز دليل على استنزاف النخبة السياسية كامل مخزونها من الثقة. الاستثمار في انعدام الثقة وربما يحاول كثيرون اليوم الاستثمار في مناخ انعدام الثقة في الأحزاب ورجال السياسة لتقديم أنفسهم كبدائل لا سيما مع ما تشهده الساحة الحزبية من «تعفن» جراء انهيار كل المقومات المتعارف عليها في الحد الأدنى من الأخلاق المطلوبة في ممارسة النشاط السياسي. وهو ما دفع بقوة إلى التفكير في طرح مبادرة «مشروع قانون حول أخلاقيات العمل السياسي» كانت أول أمس محور يوم دراسي برلماني ناقش أخلاقيات الحياة السياسية على المستويين الوطني والمحلي، من منطلق وعي النواب والقيادات الحزبية بتدني صورتهم لدى الراي العام وربما إن لم يسارعوا للحفاظ على الحد الأدنى من الأخلاق السياسية لن يجدوا غدا من يعطيهم صوته في الانتخابات القادمة. وتماما كما شكل المستقلون في الانتخابات البلدية الأخيرة الملاذ لدى الناخبين في ظل انعدام الثقة في الأحزاب ووعودها ربما يراهن كثيرون اليوم على ورقة المستقلين تحت عناوين حركات مدنية أو جمعيات أو مبادرات مواطنية تحضيرا للاستحقاقات الانتخابية القادمة. لكن هل تستقيم الحياة السياسية الديمقراطية بالتعويل على المستقلين والمجتمع المدني في التغيير وإيجاد الحلول؟ يجيب المحلل السياسي وأستاذ التاريخ المعاصر عبد اللطيف الحناشي أنه حتى عبر التاريخ فإن الأحزاب من تغير المشهد السياسي وليس المجتمع المدني بما في ذلك النقابات. ويضيف في تصريح ل«الصباح» أنه في تونس كان لنا منظمات مجتمع مدني عريقة تاريخيا لكن دائما ما كان دورها محدودا «والمجتمع المدني عادة ما يكون «رديفا» يساند بخلفية نقدية وله دور لكن لا يغير المشهد السياسي بعمق». غياب التقاليد الحزبية وبالغوص قليلا في الخلفيات التاريخية التي أفرزت اليوم مشهدا حزبيا مختلا جعل المنظمات في تونس والمجتمع المدني يواصل الريادة والقيادة أحيانا في الصفوف الأولى على حساب الدور الطبيعي للأحزاب رغم مرور 8 سنوات من عمر الانتقال الديمقراطي، يقول عبد اللطيف الحناشي أنه رغم أن ظاهرة الأحزاب قديمة في تونس تعود إلى 1920 ابان تأسيس الحزب الشيوعي التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي لكن لم يكن هناك تعددية حزبية واستمر ذلك في فترة بورقيبة عندما مورست الضغوط وتم التأسيس لأحزاب بشروط مسبقة وبالتالي لم يتبلور في تونس المفهوم الدقيق للحزب المهيكل والمنظم والفاعل باستثناء الحزب الحر الدستوري الذي انتهى إلى التجمع والاتجاه الإسلامي الذي أفرز حركة النهضة. ويعتبر محدثنا انه بعد الثورة ورغم الإسهال الحزبي (حوالي 214 حزبا) نجد فقط حوالي 15 حزبا ممثلين في البرلمان والبقية يقتصر وجودهم على المنابر الإعلامية «وبالتالي لا يكمن الحديث عن أحزاب لها تواجد وتأثير على أرض الواقع». ظلت أيضا التقاليد الحزبية السليمة غائبة في ممارسات وخيارات الأحزاب بعد 14 جانفي ما جعل المنظمات والمجتمع المدني يواصل لعب دور الحاضن للنضال والرغبة في التغيير إلى الأفضل. والملاحظ أن الشباب العازف يوما بعد يوم عن العمل الحزبي والسياسي يجد ضالته في العمل الجمعياتي بعد أن فشلت الاحزاب وبرامجها وتوجهاتها في استمالته. ومن وجهة نظره يعتبر الاستاذ عبد اللطيف الحناشي أن من بين أسباب فشل الأحزاب بعد الثورة في استقطاب الشباب الراغب في التغيير نحو الأفضل هو وجود أمراض مستفحلة داخل الأحزاب في تونس لم تستطع هذه الأخيرة تجاوزها ومن بينها النرجسية المضخمة لقياداتها وغياب الديمقراطية داخلها وعدم اهتمامها بمتطلبات العمل الحزبي المهيكل والديمقراطي والعصري المنفتح. فلا توجد مراكز بحوث خاصة بالأحزاب ولا يوجد اهتمام بعلم الاجتماع الانتخابي كما لا تحرص هذه الأحزاب على الانفتاح على الخبراء والباحثين والمختصين في مختلف المجالات لتعزيز قدراتها ومهارات قياداتها على فهم الواقع والمجتمع والبحث عن مقترحات حلول وبرامج واقعية قادرة على الاقناع والتغيير. وما لم تستوعب الأحزاب في تونس متطلبات المرحلة والواقع ستظل عاجزة عن استقطاب تلك القوى الحية القادرة على التغيير نحو الأفضل والتي تنفر اليوم العمل الحزبي والسياسي وتبحث عن بدائل صلب المنظمات والجمعيات لكنها قطعا لن تكون قادرة على تغيير المشهد السياسي إلا من داخل الأحزاب نفسها، فتلك مقتضيات الديمقراطية التي ننشدها جميعا.