هدفنا مصالحة التونسي مع ذاكرته وهويته الثقافية..وكذلك مع أخيه التونسي.. لدينا الآن 350 تسجيلا لمناضلين وفاعلين أساسيين في الحركة الوطنية وماضون في دعم هذا الرصيد دور المؤّرخ يبقى دوما دور الضامن للتوازنات الضرورية خدمة للشأن الوطني على المؤّرخ أن يحمي المتلّقي من التماهي مع الماضي والسقوط في سحره.. لأن ذلك ضرب من ضروب التطرّف تونس - الاسبوعي: إعتبارا لأهمية ما يمكن أن يضطلع به المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية من دور في ربط التونسيين بهويتهم وذاتهم الوطنية في بعدها التونسي والعربي والاسلامي.. وفي سياق تاريخ البلاد على مرّ حلقات تشكله.. وبالنظر الى قيمة الندوات العلمية التي ما فتئ ينظمها هذا المعهد كمؤسسة جامعية وأكاديمية خدمة للصالح العام وحماية للناشئة من فقد جسور التواصل مع ماضيهم ورموز وطنهم.. تضرب «الأسبوعي» اليوم موعدا مع الأكاديمي والأستاذ الجامعي والمؤّرخ نبيل قريسة مدير المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية وتجري معه المصافحة التالية حول أنشطة هذه المؤسسة واستراتيجيات إشاعة ما تقوم به من تظاهرات على أوسع مدى ممكن. * بداية هل من فكرة عن المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية وأهم خصوصياته؟ - المعهد الاعلى لتاريخ الحركة الوطنية هو عبارة عن مركز بحث علمي متخصص في مجال تاريخ الحركة الوطنية. وقع احداثه بمقتضى قرار رئاسي بمناسبة انعقاد مؤتمر «الانقاذ» سنة 1988 ثم انطلق في نشاطه العلمي سنة .1989 وقد جاء هذا الاحداث بهدف المصالحة الوطنية بمعنى مصالحة التونسي مع ذاكرته التاريخية ومع هويته الثقافية من ناحية ومصالحة التونسي مع أخيه التونسي من ناحية ثانية بحكم أن القاسم المشترك هو حب الوطن والاخلاص له دون سواه. وعلاوة على الادارة والمجلسين الاداري والعلمي يضم المعهد هيئة من الباحثين القارين يتوزعون على أربع وحدات. بحث ودراسة وهي: - وحدة الارشيف المكيروفيلمي: وهي عبارة عن الرصيد الاهم الذي يمتلكه المعهد، إذ أنه المؤسسة الوطنية المتخصصة في أرشيف الحركة الوطنية ولدى المعهد رصيد كبير يعود الى الثمانينات والتسعينات.. وسيتدعم في السنوات القادمة من خلال جلب عشرات الآلاف من الوثائق الجديدة التي تدخل تونس لأول مرة خاصة من فرنسا وبعض البلدان الاخرى.. علما وأننا ننتظر الآن وصول أول دفعة من هذا الارشيف مكونة من أكثر من 15 ألف وثيقة جديدة تهم الفترة المتراوحة بين 1881 والحرب العالمية الاولى.. لتليها فيما بعد مجموعة أخرى الى حدود نهاية عشرينات القرن الماضي(1929) وفي هذا الصدد يتولى الباحثون من المعهد رصد ما يتوفر من أرشيفات تهم تاريخ تونس المعاصر في الداخل والخارج وخاصة في أوروبا (فرنسا وايطاليا وألمانيا وتركيا) ثم يقع الاتفاق مع مراكز الأرشيف على عملية الاستنساخ وفق تبويب وترتيب منهجي مرتبط بأولويات البحث العلمي في المجال (تاريخ الحركة الوطنية) وأيضا وفق ما يتوفر من وثائق منظمة وجاهزة للاستنساخ. - وحدة الشهادات الشفوية للمناضلين والفاعلين في تاريخ الحركة الوطنية : تتولى عملية تسجيل شهادات المناضلين وتوثيقها ودراستها أو استغلالها علميا وكذلك نقلها الى المكتوب ولدينا الآن رصيد يفوق 350 تسجيلا لمناضلين. وفاعلين أساسيين في الحركة الوطنية وكذلك لشهود عيان أجانب عاشوا أحداث الحركة الوطنية وعاصروا وقائعها.. ويسعى المعهد الى تسريع وتيرة تسجيل الشهادات الشفوية في الفترة القريبة القادمة. - وحدة المتاحف ومواقع الذاكرة: وهي وحدة أوكلت لها مهمة انشاء متاحف للذاكرة الوطنية والاشراف عليها علميا وكذلك إداريا في بعض الحالات مثل متحفي «قصر هلال»و«تبرسق» كما تتولى دوريا تجديد الوثائق المعروضة في بقية متاحف الحركة الوطنية مثل متحف السيجومي ومعقل الزعيم.. وهي تسعى في ذات الوقت الى برمجة انشاء متاحف جديدة في كل مناطق الجمهورية بما يتناغم مع ما جاء من توصيات لائحة الثقافة والاعلام الصادرة عن مؤتمر «التحدي» للتجمع الدستوري الديمقراطي.. وحيثما توجد حاجة لتعريف الناشئة بالتاريخ النضالي للاجيال السابقة والاعتراف لهم بالفضل فيما ننعم به اليوم من الاستقلال والكرامة.. وهذا هو دور المعهد في الحقيقة، الرابط بين الاجيال وترسيخ الذاكرة الوطنية وتغذية الحسّ الوطني وروح المواطنة.. أخيرا تتولى هذه الوحدة الاشراف على تنظيم معارض وثائقية متخصصة يساهم فيها كل باحثي المعهد على غرار ما أقمناه في ديسمبر الماضي بقاعة الاخبار بالعاصمة حول ذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد وقد أبرزنا فيه وثائق نادرة تخص التحقيق في إغتيال الزعيم وكذلك وثائق تهم مسيرته النضالية. - وحدة التوثيق للبحوث والدراسات في مجال تاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس المعاصر بصفة عامة : وهي وحدة تشرف على عملية رصد واسعة لجميع الدراسات والبحوث المنجزة في تونس والخارج حول تاريخ الحركة الوطنية ووضعها في قاعدة بيانات قصد تبويبها واستخراج الاشكاليات والمقاربات الجديدة لغاية تطوير البحث العلمي في هذا المجال ودفع مسيرته نحو أفاق أرحب وهي على ذمة الباحثين داخل المعهد وخارجه. * تميّز المعهد خلال هذه السنة بتنظيم عديد الندوات والمحاضرات التي نبشت في الذاكرة الوطنية. فما تراه حقق - المعهد -بهذا المجهود؟ - في الواقع في ظل التكامل والتنسيق بين مختلف الوحدات وفي إطار استراتيجية البحث العلمي في ما يهم الهوية الوطنية يسعى المعهد الى أخذ موقعه في الساحة الوطنية الى جانب مؤسسات وطنية أخرى خدمة للبحث العلمي والشأن الوطني بصفة عامة.. لذلك فهو متفتح على الباحثين الجامعيين وعلى الطلبة وكذلك على الساحة الثقافية الوطنية والمناضلين وسائر المهتمين بالشأن الوطني وتحديدا بتاريخ النضال الوطني في سبيل عزة تونس وكرامتها واستقلالها.. وهذا ما يجعل المعهد مدعوا الى مضاعفة هذه الجهود رفعا لتحديات المرحلة التي تعيشها الأوطان إزاء تهديدات العولمة ومخاطرها.. لذلك يؤمن المعهد بصورة منتظمة ودورية ندوات ومحاضرات وأيام دراسية ومعارض مفتوحة أمام الفئات التي ذكرناها من ذلك تنظيم ما لا يقل عن 22 تظاهرة خلال السنة الجامعية المنتهية.. كما سيتم في افتتاح السنة القادمة تنظيم عديد التظاهرات والانشطة محورها «التراجم» تراجم أعلام الحركة الوطنية بعد أن كان مدار الاهتمام خلال التظاهرات المنتهية «الذاكرة والتاريخ». * لكن على الرغم مما تقومون به من جهود ومحاضرات قيّمة تبقى الاصداء في حدود أسوار المعهد. فلماذا لا يتم التفكير في استراتيجية إعلامية تعّرف بأنشطتكم وتدعم الاقبال عليها بإعتبار دورها في تأصيل الافراد في تاريخهم وذاكرتهم الوطنية وشدهم الى هويتهم؟ -بطبيعة الحال يسعى المعهد لتأمين هذه الأنشطة المختلفة في إطار استراتيجية البحث التي أنشئ من أجلها وبالتالي هو يحرص أولا على وجود انسجام بين وحدات البحث والباحثين القارين ثم بين هذه الوحدات والوسط الجامعي بصفة عامة ثم في مستوى آخر مع دائرة الساحة الثقافية والنضالية الوطنية وهذا ما ركزّ عليه جهوده في السنة الجامعية 2007 - 2008 دون أن يمتنع عن ربط القنوات مع وسائل الاعلام المختلفة من صحافة مكتوبة وإذاعة وتلفزة.. لكن يبقى طموحنا أكبر في هذا المجال لمزيد اعلام الشباب الطلبة والمهتمين بالحركة الوطنية بمختلف أنشطتنا حتى يتكثف الاقبال عليها والمشاركة فيها وهو ما يتطلب مزيدا من التنسيق مع أجهزة الاعلام.. في كنف الشعور بالمسؤولية الوطنية لدى جميع الاطراف خدمة لتاريخ تونس النضالي ووحدتها الوطنية. كما أننا نسعى الى نشر فعاليات التظاهرات والانشطة التي نقوم بها في دورية المعهد «روافد» وكذلك في منشورات خاصة الى جانب وضع مقتطفات منها بالصوت والصورة على موقع الانترنات الخاص بالمعهد وهو نفس المسعى الذي سنتبعه في خصوص استغلال الرصيد الكبير الذي يؤمنه المعهد من تسجيلات سمعية وبصرية وأرشيف مكتوب.. * لو نعود الى عملية تسجيل الشهادات الحية كيف السبيل لضمان الصدق والموضوعية عند تكوين هذا الرصيد ناهيك وأن أخطر ما يهدد الكتابة التاريخية الوقوع في الذاتية والانطباعية؟ - علينا أن نذكّر هنا بأن العمل التاريخي مُعقّد والبحث فيه متعدد المستويات وبالتالي فإن دور المؤرخ يبقى دوما دور الضامن للتوازنات الضرورية خدمة للشأن الوطني وهذا من صلب الوعي التاريخ وكذلك من صلب المسؤولية المهنية والموضوعية العلمية تحديدا تقتضي الالتزام بالمنهج العلمي الرصين وإن كانت ليست بالضرورة محايدة أو هي على الاصح لا يمكنها أن تكون محايدة في كل الاحوال. فالتاريخ «صناعة وفن» كما قال ابن خلدون مبني على الاخبار اي على الابلاغ الناجع وفق السياق «السوسيوثقافي» الذي يشتغل في إطاره المؤرخ ومن واجبه أولا وأخيرا أن يكون على قدر هذه المسؤولية تجاه مجتمعه لذلك يصبح من الطبيعي أن تحصل بعض الاختلافات في النظر الى الموضوع المخْبَر عنه وفق رؤى ذاتية ووفق طموحات الفاعلين المعنيين.. والمؤرخ الموضوعي يكون عادة منتبها الى هذه الاستراتيجيات الفردية والجماعية ومحترزا من الانزلاقات المحتملة في توظيف الاحداث وتبريرها وما عليه الا أن يكون أقرب ما يمكن أن يكون الى صنع صورة دقيقة للاحداث من خلال المقارنات بين الشهادات المختلفة ومن خلال نقدها نقدا موضوعيا رصينا ثم خاصة من خلال أسلوب تقديمها للمتلقي بما يمنع عنه خطر التماهي مع الماضي والسقوط في سحره فذلك هو التطرف الذي يجب على المؤرخ ان يسعى بكل جهده المخلص الى تجنيب المتلقي الوقوع فيه.. وهذا هو تحديدا ما يسعى اليه الباحثون في المعهد. * نأتي الى إصدارات المعهد حول التاريخ والحركة الوطنية كيف تقيمونها؟ ولماذا لا تبادرون بنشرها في المؤسسات التربوية ومن ثمة إفادة الناشئة بها وتجذير علاقاتهم بتاريخهم ورموز وطنهم؟ - للمعهد منشورات متنوعة كالمجلة الدورية «روافد» وسلسلة من الكتب مثل سلسلة مناضل وأثره ومذكرات ودراسات وسلسلة ندوات ونشريات وسلسلة وثائق ونصوص من تاريخ تونس المعاصر.. وهذه الاصدارات المتنوعة تقدم وجوها مختلفة من تاريخ الحركة الوطنية التونيسة وتضيف الى المكتبة بإطراد ثمرات مجهودات الباحثين في هذا المجال. ونحن مقبلون على مرحلة جديدة ستتدعم فيها هذه المنشورات بسلسلات جديدة وكذلك بعناوين تنضاف الى ما هو موجود ولعل من آخر اصدارات المعهد «موجز تاريخ الحركة الوطنية» وهو تأليف جماعي يصدر لأول مرة في تونس.. وكذلك كتاب «ساقية سيدي يوسف» للاستاذ الهادي البكوش وستصدر قريبا «مذكرات المناضل» الطيب الشواري حول «مساهمة القلعة الكبرى في تحرير الوطن» وكذلك أعمال الندوة الدولية الثالثة عشرة والعدد 12 من دورية روافد.. كما أن المعهد متفتح على أعمال المناضلين وأرشيفاتهم الخاصة ولديه رصيد من الصور الفوتوغرافية يصل الى حوالي عشرة آلاف صورة وهو رصيد في طور التدعيم من خلال أرصدة جديدة.. وكل هذه المحاور التي يشتغل عليها المعهد إنما هي تتضافر وتتكامل في سبيل إرساء تقاليد مؤسساتية للبحث العلمي في تونس في مجال العلوم الانسانية نرجو لها أن ترسخ في ضمائر وعقول المؤرخين والمختصين في هذا المجال والتي نعتبرها اختصاصات علمية استراتيجية يُراهن عليها الوطن من أجل كسب معركة التنمية البشرية.. ودعم الحصانة الذاتية للمجتمع وتحصين مستقبل الأجيال الصاعدة. للتعليق على هذا الموضوع: