من المفارقات الصارخة المسجلة على سير الاحداث الدولية ان ذكرى مؤتمر مدريد للسلام تعود هذا العام فيما العالم منشغل باخبار مؤتمر الخريف المرتقب للسلام الذي ستحتضنه الولاياتالمتحدة في نوفمبر القادم تحت اشراف وزيرة خارجيتها غونداليزا رايس حيث تواترت التصريحات الفلسطينية بشان "وعود" قدمتها الادارة الامريكية للرئيس محمود عباس اضافة الى "انجازات" تتضمن جوانب سياسية وتسهيلات حياتية للفلسطينيين قبل المؤتمر... ولعل في ذلك اكثر من سبب منطقي من شانه ان يدعو للتساؤل عما اذا كانت مثل هذه الوعود ايذانا بالتخلص نهائيا من تركة اوسلو التي انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام ام اقرارا بالعودة الى النقطة الصفر بحثا عن ارضية جديدة ولكنها اكثر غموضا واحاطة بالمجازفات والمخاطر في محاولة لاعادة احياء العملية السلمية وفق الشروط الاسرائيلية والضمانات الامريكية غير المضمونة مقابل بعض الكانتونات الممزقة هنا وهناك للفلسطينيين بناء على ما اثبتته نتائج التجارب الكثيرة الفاشلة لجهود الوساطة الامريكية في الشرق الاوسط دون غيره والتي اثبتت انها خالية من النزاهة والمصداقية وبعيدة عن الاعتراف بمكانة الشرعية الدولية وقوانينها المعروفة في التعامل مع الاحتلال... اربعة عشر عاما تمر غدا على ذكرى توقيع اتفاقات اوسلو في الثالث عشر من سبتمبر 1993 بين الفلسطينيين الاسرائيليين في واشنطن بعد سلسلة من المحادثات السرية التي اعقبت مؤتمر مدريد للسلام الذي حمل في طياته انذاك بعض التفاؤل الحذر وجعل العالم يعتقد ولاول مرة ان امكانية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين ليست امرا مستحيلا عندما تتوفر الجهود والارادة السياسية المطلوبة لتجاوز العراقيل وكسر الجمود القائم وخاصة الغاء التابوهات بعد ان اصبح جلوس الفلسطينيين والاردنيين والسوريين واللبنانيين والاسرائيليين حول طاولة واحدة للتفاوض حقيقة ملموسة وهدفا مطلوبا من اجل توفير مناخ افضل للتعايش بين الشعبين العربي والاسرائيلي في منطقة لم تعرف الاجيال المتعاقبة فيها وعلى مدى اكثر من خمسة عقود غير الصراعات الدموية والتوترات والبؤس والحرمان وتكرار المآسي التي كان الشعب لفلسطيني اول من يدفع ثمنها من دماء وارواح ابنائه وعلى حساب كرامته وامنه... وبرغم كل ما تضمنه اتفاق اوسلو بشهادة اصحاب الحق من نقائص مجحفة في حق الشعب الفلسطيني فقد شكل نقطة تحول بارزة في قضيته العادلة واعاد اليه بعض الامل من اجل اقامة دولته المستقلة واعلان القدس عاصمة لها واستعادة جزء من حقوقه في اقرار العودة ورفض التوطين وكانت عودة عرفات في جويلية 1994 بداية لتحول الحلم الى حقيقة قبل اغتيال رابين. اما بقية الحكاية فقد باتت معروفة بعد تراجع فرص السلام على وقع لاءات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وعدم التزام مسؤولي الادارات الامريكية بوعودهم المعلنة في دفع عجلة السلام التي دخلت بدورها مرحلة الانعاش المطول مع ارييل شارون... مرة اخرى اذا كان الهدف من مؤتمر الخريف للسلام الخروج ببضع صور تذكارية ليس الا فان تلك الصور الكثيرة المسجلة من مؤتمر مدريد الى اتفاقات اوسلو وواي ريفر وكمب دايفد وطابا والخليل وشرم الشيخ وغيرها وصولا الى خارطة الطريق واللجنة الرباعية ما يكفي للذكرى اما الطريق الحقيقي لتحقيق السلام فهو واحد ولاسبيل الى غيره ولاشك ان الفلسطينيين قد خبروا بداية الطريق الذي يبدا دون ادنى شك بتوحيد الصف الفلسطيني والاستفادة من اخطاء الماضي واعادة ترتيب البيت المشوش استعدادا للمرحلة القادمة وما تفرضه من وحدة في الموقف من اجل كسب دعم واحترام الراي العام الدولي وكشف الوجه الحقيقي لاسرائيل والعودة بقوة الى المحافل الدولية والمقارعة بحجة الشرعية الدولية والقانون الدولي كخطوة اساسية في دعم المقاومة الشعبية واستمرار مسيرة النضال المشروع ضد الاحتلال وعدا ذلك فان الافراط في التفاؤل والانجراف وراء وعود كلامية اثبت اصحابها عدم استعدادهم للالتزام بها لن يكون له ادنى مبرر وستبقى اسرائيل اكثر من يتحدث عن فرص السلام ولكن اخر من يتحرك لتحقيقه طالما بقيت الادارة الامريكية الراعية لهذا المؤتمر المرتقب مصرة على اخطاء الماضي والنظر الى الحلول المطلوبة من منظار اسرائيلي داكن...