عودة المنفي أو المنفيين عادة ما تخضع لحسابات وأهداف عدد من المعنيين بالأمر كما أنها سرعان ما تصبح قابلة للتأثر والتأثير في المشاعر وإثارة الأحاسيس باختلافها وتناقضها ما أن تطأ أقدام العائد أرض بلاده.. بل إن الخطوات الأولى تصبح شبيهة بأولى الخطوات في حياة الإنسان لأنها قادرة على تحديد مجرى حياته وبالتالي تكون مصيرية مثلها في ذلك شأن مصير العائد الذي قد تنتهي به رحلة المنفى إلى نقطة البداية ولكن مع بعض الفوارق فقد يواصل مجرى حياته أو يبدأ من نقطة الانطلاق أوينتهي به المطاف بعد خطواته الأولى. هذا ما يمكن أن ينطبق في جانب منه على بي نظير بوتو زعيمة "حزب الشعب" الباكستاني المعارض التي عادت أول أمس إلى كراتشي بعد ثماني سنوات قضتها في المنفى منذ الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال برويز مشرف في أكتوبر 1999 مطيحا بحكومة نواز شريف زعيم حزب "الرابطة الإسلامية" المقيم هو الآخر حاليا بالمنفى. فهذه المرأة التي كرست حياتها لإعادة الاعتبار لوالدها ذو الفقار علي بوتو الذي أعدم أثناء فترة حكم الجنرال ضياء الحق والتي وصلت إلى سدة الحكم لتواصل مسيرة والدها من خلال حزبها كادت تلقى مساء أول أمس مصيرا مخالفا لما كانت تطمح إليه قبل عودتها من المنفى ذلك أن الانفجارين اللذين استهدفا موكبها كادا أن يضعا حدا لحياتها نظرا لما خلفاه من عدد مرتفع من القتلى بين مستقبليها. جاءت ترتيبات عودة بي نظير بعد صعوبات أصبح مشرف عرضة لها لعل أهمها انخفاض شعبيته منذ إقالة رئيس المحكمة الدستورية إضافة إلى ضغوط التيار الديني المتشدد إزاء سياسة باكستان الخارجية وتحديدا علاقتها بأمريكا ودورها في "الحرب على الإرهاب" التي تشنها الإدارة الأمريكية على تنظيم "القاعدة" وخلاياه في أكثر من مكان. والاتفاق بين مشرف وبوتو يمثل أخف الضررين باعتبار أن بوتو مقابل عودتها والمشاركة في الانتخابات المقبلة تسمح بإعادة انتخاب مشرف على رأس الدولة على أن يتخلى عن قيادة الجيش وهذا ما حصل فبي نظير إضافة إلى كونها تحكمها مواعيد سياسية يبقى هاجسها "الانتقام " بشقه الشخصي إذ تريد تبرئة زوجها المتهم في قضايا فساد. ولكن من لديه مصلحة في التخلص نهائيا من بوتو بمجرد أن تطأ أقدامها أرض بلادها؟ قد تتجه بعض الشكوك إلى الحكومة الحالية وإلى الرئيس مشرف الذي يبدو بعيدا عن مثل هذه المحاولة لأن بوتو تعتبر بصورة أو بأخرى شريكا له وقد يتقاسمان السلطة بعد الانتخابات وبمجرد فوز حزبها وبالتالي لا يمكن أن تكون الأجهزة الرسمية الباكستانية وراء محاولة الاغتيال. بل حتى المخابرات الباكستانية التي كانت قبل 2001 عرضة لتسربات من قبل المتشددين بحكم دورها في الحرب الأفغانية ومساعدة التنظيمات الأفغانية لا يمكن أن تكون متورطة في محاولة اغتيال بوتو لأنها كانت عرضة لعملية تطهير طيلة السنوات الماضية بالنظر إلى دورها في موالاة سياسة البلاد في سياق الحرب على الإرهاب. قد يكون بعض أنصار الرئيس الأسبق ضياء الحق دبروا محاولة الاغتيال لأسباب تعود إلى كراهية أسرة بوتو وهو احتمال يبقى واردا يمكن أن يضاف إلى احتمال دور "القاعدة" لأن هذه الأخيرة لا تريد أن يستقر حكم مشرف من خلال وجود حكومة منتخبة تحظى بأغلبية شعبية يمكن أن تحسب لفائدة مشرف وهو ما يعني مزيدا من الانحسار لأنصار "القاعدة" وحلفائها في باكستان خصوصا بين الجماعات الدينية التي لا تنظر بعين الرضا إلى حكم مشرف وتوجهاته الداخلية وانحيازه لإدارة بوش. ومهما ستكون نتائج التحقيقات فإن بي نظير ستخرج أبرز مستفيد من محاولة الاغتيال التي تزيدها وحزبها شعبية ذلك أن العائد من المنفى وفي حالة تمكنه من مواصلة خطواته الأولى سيواصل مسيرته وهذا مثال لأحد العائدين من المنفى ذلك أن التاريخ مازال يحتفظ بأدق تفاصيل حالات لمنفيين كانت نهاياتهم دموية ولم يكتب لهم العودة إلى النقطة التي انتهوا إليها قبل دخول عالم المنافي. صفة الدموية تعيد الذاكرة إلى عام 1983 وإلى الفلبين عندما قام أحد القناصين باغتيال زعيم المعارضة بنينيو أكينو وتحديدا يوم 21 أوت على أرض مطار العاصمة مانيلا بعد لحظات من عودته من المنفى في أمريكا.. قصة هذا الرجل أنتجت انتقاما على طريقة بي نظير بوتو. فقبل أن يصبح بنينيو أكينو معارضا تولى عديد المناصب الرسمية في الدولة ولكن ميله إلى الإصلاح والديموقراطية ومواجهة نظام فرديناند ماركوس كلفاه غاليا إذ سرعان ما تم اعتقاله عام 1972 في بداية إعلان الأحكام العرفية ثم صدر ضده حكما بالإعدام في 1977 وبقي في السجن إلى حين إيجاد "مخرج" تمثل في نقله (نفيه) عام 1982 إلى أمريكا ل"أسباب صحية" حيث واصل نشاطه السياسي المعادي لنظام ماركوس،، وعند عودته من المنفى لم يجد آلاف المستقبلين على أرض المطار وإنما رصاصة أو أكثر لتنهي قصة منفى قصير. وبعد فترة من الاحتقان سمح ماركوس بإجراء انتخابات رئاسية عام 1986 وبعد أخذ ورد حول النتائج التي حاول ماركوس تزويرها فازت أرملة أكينو لتصبح كورازون أول رئيسة للبلاد في 25 فيفري 1986 ويضطر ماركوس إلى المنفى بهاواي و تحقق كورازون حلم زوجها في انتقام عبر الاحتكام إلى الشعب وصناديق الاقتراع لتتواصل فترة حكمها إلى غاية 30 جوان 1992. وإذا لم تكن الرصاصات أو عمليات التفجير في انتظار العائدين من المنفى فإنها قد تستهدفهم في منفاهم وهو ما حصل لأنستازيو سوموزا آخر من حكم من عائلة سوموزا في نيكاراغوا الذي أطاحت بنظامه الجبهة الساندينية اليسارية بعد أن حكم البلاد من 1967 إلى 17 جويلية 1979 باستثناء فترة قصيرة وفر إلى البراغواي. ولم تدم فترة المنفى طويلا لسوموزا إذ تعرضت سيارته في اسونسيون عاصمة الباراغواي إلى قذيفة أودت بحياته في 17 سبتمبر1980 لينتهي أحد فصول تاريخ نيكاراغوا. ومن بين قصص المنفيين هناك الرائد عمر المحيشي الذي كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في ليبيا والذي غادر بلاده إلى تونس في أوت 1975 ثم إلى مصر ليجعل من القاهرة منفاه في 8 فيفري 1976 واحتضنته مصر على أساس كونه لاجئا سياسيا ولكن رياح السياسة غالبا ما تجري بما لا يشتهي البعض. فبعد توقيع مصر اتفاقيات كامب دافيد مع إسرائيل لم يستحسن المحيشي هذا الأمر فأبعدته السلطات المصرية في جويلية 1980 إلى المغرب ومرة أخرى تفعل رياح السياسة مفعولها إذ صادف أن حصل تقارب بين ليبيا والمغرب على خلفية قضية الصحراء الغربية آنذاك فبعد توقيع البلدين على بيان وجدة الوحدوي في 18 أوت 1984 الذي تم بمقتضاه إعلان وحدة بين البلدين تحت إسم "الاتحاد العربي الإفريقي" سلمته السلطات المغربية بعد أكثرمن شهرين بقليل إلى السلطات الليبية مقابل مجموعة من ثوار جبهة "البوليزاريو".. لتنتهي رحلة بين منفى مشرقي وآخر مغاربي..