بقلم: كمال بن سعد الضيف اسمح لي سيدي الوزير الأول أن أتوجه إليك بالتحية والتهنئة والدعاء بالتوفيق والنجاح في المهمة التي قبلت مشكورا تحمل أعبائها الثقيلة في هذا الظرف العصيب والدقيق. واسمح لي أيضا سي الباجي أن أتوجه إليك بشكر خاص لانتقائك - وأنت رجل السياسة المحنك والقانوني الضليع - مصطلحا دقيقا لتوصيف الذين حكموا تونس بالقمع والترهيب والنهب والسطو منذ 23 عاما فأسميتهم بلا وجل أو تردد "عصابة مفسدين". ما هو مبرر هذا الشكر؟ في الواقع، لا يكمن السبب في دقة التعبير الذي استخدمه سي الباجي قائد السبسي وبلاغته وحسن استيعابه لحجم الإجرام المرتكب بحق البلاد والعباد فحسب، بل في ما تضمنه - بالنسبة لي ولعائلتي بشكل خاص - من إصلاح لما انكسر ورد اعتبار وجبر معنوي لمظلمة رهيبة وإجحاف فادح ارتكب في الأيام الأولى من عهد الطاغية المخلوع بحق عشرات الوطنيين المخلصين لتونس من ضباط وضباط صف من شتى الرتب من الجيش الوطني والشرطة والحرس والديوانة والحماية المدنية إضافة إلى حوالي 20 مدنيا. للتذكير وتنشيطا لذاكرة الجميع، عقد الحبيب عمار، أول وزير داخلية في عهد بن علي آنذاك يوم 23 نوفمبر 1987 ندوة صحفية حظيت بتغطية إعلامية واسعة داخل البلاد وخارجها أعلن فيها أنه تم الكشف عن "عصابة مفسدين" وإلقاء القبض على عدد من الأشخاص (نشرت أسماء وصور بعضهم في نشرات الأخبار الرئيسية والصفحات الأولى من الجرائد) كانوا يُعدّون حسب مزاعمه للإستيلاء على السلطة إلخ... وإثر ذلك توقف الإعلام الرسمي والتابع تماما عن الحديث عن القضية وأحاطها بستار كثيف من التعتيم فيما استمرت وبلا هوادة حملة المداهمات الوحشية للبيوت وترويع العائلات وممارسات التعذيب والتنكيل الوحشي بنخبة من أبناء تونس البررة من العسكريين والأمنيين والوطنيين الذين تشاوروا أو فكروا في التحرك في تلك الفترة من أجل إنقاذ الوطن من كارثة محققة ولم تتلطخ أيديهم بقطرة دم تونسية واحدة، وجرى ذلك في ظل صمت مطبق من الجميع، سياسيين وحقوقيين وإعلاميين (أستثني منهم بعض الشخصيات الحقوقية النزيهة وصحيفة "الموقف" المحترمة). وبالعودة إلى بداية القصة الأليمة التي لا تعلم عنها الأغلبية الساحقة من التونسيين شيئا، شهدت الليلة الفاصلة بين 30 نوفمبر و1 ديسمبر 1987، سقوط أول ضحايا "العهد الجديد" القمعي عندما طلعت روح الرائد محمد المنصوري (أصيل نفزة، ولاية باجة) إلى بارئها تشكو ظلم زبانية بن علي وأعوانهم بعد أن تعرض الرجل الأمين لوجبة رهيبة من التعذيب اللاإنساني والهمجي من طرف الجلادين استمرت لساعات طويلة في إحدى زنزانات التعذيب بمقر وزارة الداخلية ولا زال الشهود على تفاصيل ما حدث يومها أحياء يرزقون. ومنذ الخامس من نوفمبر 1987، تاريخ اعتقال أول أفراد المجموعة التي أطلق عليها أول وزراء داخلية بن علي افتراء وبهتانا تسمية "عصابة مفسدين" وإلى تاريخ 4 ماي 1989، موعد الإفراج عن الفوج الثالث والأخير من المجموعة بعفو رئاسي مغشوش لم تترتب عليه استرجاع المعتقلين ظلما لحقوقهم المدنية أو إعادتهم إلى وظائفهم (وهم الذين لم يُحاكموا أمام أي هيئة قضائية ولم تثبت بحقهم أي تهمة)، عاش الآباء والأمهات والزوجات والأبناء بل المئات من أقارب المعتقلين في شتى أنحاء البلاد في ظل أجواء مظلمة من التعسف والمحاصرة والملاحقة والتشويه والثلب والتخوين والإتهام. وهو ظلم بواح وحيف شديد لا يعرف وطأته وحجم معاناته إلا من عاشه فعلا وتضرر منه مباشرة صباح مساء لأعوام متصلة كقطع الليل المظلم. هذا الظلم البواح اقترن أيضا بحصار بوليسي محكم من أجل الحيلولة دون إمكانية عودة معظم أفراد المجموعة إلى ممارسة حياة عملية عادية ولمنعهم من السفر طلبا للرزق أو التداوي من مخلفات التعذيب الشنيع الذي تعرضوا له، وهو حصار استمر وتصاعد واتخذ أشكالا شتى لا يعلم إلا الله وحده مداها وأصنافها وحجم الأضرار النفسية والصحية والمادية والمعنوية التي خلفتها لهذه المجموعة من أبناء تونس البررة وللمئات من أفراد عائلاتهم وأقاربهم وحتى ذويهم الأباعد. لذلك، عندما استمعت إلى الوزير الأول سي الباجي قائد السبسي يُعلن ببليغ العبارة في أول خطاب له إلى الأمة يوم 4 مارس أن "التونسيين حُكموا على مدى 23 عاما بعصابة من المفسدين" بل يضيف مشددا أن "تونس في العشريتين الماضيتين عرفت عصابة مفسدين أكلوا من لحم شعبنا وماله ومن مكاسبه"، شعرت فعلا بأنني استعدت أنا شخصيا وزوجتي (وأعتقد أيضا جميع أفراد المجموعة الذين يفوق عددهم ال 170 شخصا مع التشديد على أنني لا أمتلك أي صفة للتحدث باسمهم) - كرامتي المهدورة وشرفي المهني كضابط في الجيش الوطني رغم كل الجرائم والمغالطات والتجاوزات التي ارتكبتها عصابة المفسدين الحقيقية من أجل وصمنا وتلويث سمعتنا وتشويهنا والإساءة إلينا. لقد جاء تصديق الرئيس المؤقت فؤاد المبزع على قانون العفو التشريعي العام التاريخي ليبدد الشكوك ويعزز الثقة واليوم يأتي خطاب السيد الباجي قائد السبسي ليكرس القطيعة التامة مع العهد البائد ويؤسس لوطن مُحرّرِ الإرادة يحتضن كافة أبنائه ويعيد لهم اعتبارهم كاملا ويضمن لهم جميعا أعلى درجات الكرامة والاحترام. وبالمناسبة أدعو الحكومة المؤقتة إلى المسارعة بفتح أرشيف وزارتي الداخلية والدفاع بوجه الباحثين والمؤرخين كي يكشفوا للشعب التونسي العظيم حقيقة ما حدث في الأيام الأخيرة من حكم بورقيبة وخلال الأيام الأولى من عهد بن علي البائد ويُطلعوا شباب الثورة والأجيال القادمة على المعدن النادر للرجال (والنساء اللواتي شددن أزرهم وحفظنهم في غيابهم) بما يحفظ للذاكرة الوطنية ويصون للتاريخ التونسي قيمة الشرفاء المخلصين الذين عقدوا العزم في لحظة دقيقة وملتبسة على إنقاذ البلاد والعباد مما كان يحيق بها. رحم الله الشهداء جميعا وعجل الشفاء للجرحى والمصابين وحفظ شباب الثورة وشيوخها ووفق الله الجميع لما فيه خير البلاد وعزتها وسؤددها. نقيب سابق في جيش الطيران التونسي