أصبح الشأن العام محورا آخر يتناوله المواطن بعد الثورة، بل أصبحت تفاصيله خبزا يوميا أثقل كاهله كما الجري وراء "الخبزة"، ورغم ذلك فان نسبة كبيرة من المواطنين مازالت تنفر من الأحزاب. فكيف هي صورة السياسيين في الذهنية العامة؟ وهل أن السياسيين متحملين لمسؤولية ترجمة مطالب المواطنين؟ رغم أهمية العمل السياسي، ورغم أن الثورة رفعت شعار الحرية والتعددية والشفافية وطالبت بمحو عهد من الفساد والتسلط السياسي، إلا أن صورة السياسي مازلت سلبية لدى نسبة كبيرة من الشارع التونسي، ويعتبر طارق بالحاج محمد المختص في علم الاجتماع أن التونسي مازال فاقدا للثقة بالسياسيين، ويفسر بالحاج محمد "الظاهرة" من خلال أربع مقاربات: الأولى تاريخية، إذ تواصل عزوف المواطن عن العمل السياسي على امتداد أكثر من 50 سنة تقريبا وليس عقدين فقط حسب رأيه، وقد قام النظام الحاكم البائد بإبعاد الشأن السياسي عن التداول العام منذ البداية وأصبح حكرا على السياسيين فقط. من ناحية أخرى فان أغلب الشعب التونسي فقد الثقة في السياسيين، فتاريخيا لم يف السياسيون بوعودهم أبدا أمام الشعب. وعلى مستوى آخر فانه وبعد الثورة التي لم تحمل قيادات ولا"أصناما"، يؤكد بالحاج محمد أن القيادات السياسية واصلت التعامل بوصاية ومنطق أبوي مع الشعب، كما أن مرض الزعامة مازال يرافقها. أما المقاربة الرابعة، فيعتبر المختص في علم الاجتماع أن الخطاب السياسي مازال لم يرتق إلى مستوى تطلعات الشارع، إذ أن السياسيين يستعملون نفس اللغة الخشبية والوقار الزائف حسب تعبيره. وميدانيا ظهرت عدم الثقة في السياسيين، من خلال ما لقيه عدد منهم من رفض في عدد من الجهات، حيث قام مواطنون بالتعبير بوضوح عن عدم رضاهم بهؤلاء ودعوهم إلى المغادرة الفورية، ورغم إجماع الأغلبية على رفض مثل ذلك السلوك الذي لا يشرف الشعب التونسي إلا أن هذه الممارسات عبرت بوضوح عن عدم تقبل شرائح للسياسيين، الذين اعتبروهم راكبين على ثورة شعبية لم ينجزها سوى شعب أعزل دون أيديولوجيا ولا أحزاب ولا قيادات.. بل كانت شعبية بالأساس حتى في مصادر المعلومة.
من هنا يتحرك
صورة الأحزاب السياسية في ذهنية أغلب التونسيين، يبدو أنها ترجمت إلى الواقع من خلال تفاعل الشعب وتحركاته إزاء ما يحصل في دائرة الشأن العام، فرغم تطرق السياسيين إلى عدد من المواضيع الهامة، والتي أدت إلى رداة فعل شعبية هائلة ، غير أن هؤلاء السياسيين لم يكونوا هم المسبب المباشر للتحركات الشعبية بقدر ما كانت الحملات البسيطة المواطنية التي لم تستند الى وثائق ولا حجج دامغة من حركته ومن سببت ردات فعل مختلفة. وكان للمواقع الالكترونية التفاعلية خاصة، دور كبير في تحريك الشارع التونسي، فلم يستند المواطنون إلى معايير صارمة وعلمية في التعامل مع المعلومات ونشر الأخبار، غير أنها كانت هي المحرك الأول لهم، فقد بدأت القصبة واحد والقصبة اثنان من "الفايسبوك" مثلا...وبالتالي فان اللغة البسيطة، والشعبية دون مركبات ولا تأثيث، ولا خطابة لغوية هي من كانت الأقرب إلى التونسي. ورغم أن عددا من السياسيين حذروا من عدد من السيناريوهات، إلا أن تصريحات فرحات الراجحي عبر الفايسبوك وان اعتبرها الكثيرون "تخمينات" كان لها التأثير الشديد الوقع على الشارع.. ويلاحظ عدد من المتابعين أن اهتمام التونسي بالشأن العام وصل الذروة، وهي مسألة طبيعية "سببها الوضع الثوري" كما يرى ذلك عادل الشاوش القيادي بحركة التجديد، إلا أن أغلب الشعب لا يعير اهتماما كبيرا بهذه الأحزاب، ويفسر ذلك الشاوش بكون الناس "مازالوا يراقبون وينتظرون ولم يحسموا أمرهم بعد". من ناحية أخرى يعتبر محمد القوماني القيادي بحزب الإصلاح والتنمية أن على المواطنين أن يعطوا فرصة للأحزاب السياسية حتى تقدم برامجها لهم وأن توضح أطروحاتها وبدائلها، وفي المقابل يعتبر الكثيرون أن السياسيين يحظون باهتمام كبير في المشهد الإعلامي، بل إن هذا المشهد فتح لأغلبهم حتى يقدموا برامجهم ومواقفهم غير أنهم لم يستغلوا هذا الفضاء كما الفضاء العام على أحسن وجه...
دون مسؤولية
مختلف الأحزاب لم تكن تعتقد أن تسنح لها الفرصة في أن تكون جزءا ومعادلة رئيسية في إدارة الشأن الوطني، قبل الثورة كما يذهب إلى ذلك السياسيون في حد ذاتهم. غير أن مردودها وبتفاوت-، لم يكن إلى الآن مقنعا للرأي العام، بل تواصل إلى اليوم نفور المواطنين من عمل السياسي، وفي استطلاع للرأي أجري في الأيام الأخيرة أكدت شريحة كبيرة من المستجوبين فاقت 70بالمائة أن المتحدثين باسم الثورة لا يمثلون الشعب. ويذهب هنا محمد القوماني إلى أن صورة النخب السياسية المتنازعة على الحكم "الكرسي" حسب تعبيره، مازالت طاغية على تفكير المواطنين، وهي رواسب مازالت لم تنزع من العهد البائد الذي نجح في تركيز صورة نمطية مشوهة للسياسي الجشع، دون الأخلاق، الانتهازي في أذهان الناس، غير أن العديدين أكدوا أن السياسيين لم ينجحوا إلى الآن في تغيير ومسح صورة السياسي الجشع من أذهان فئات كبيرة من الشعب. في مستوى آخر، يعتبر الملاحظون، أن أغلب النخب السياسية لم تستطع الربط بين المطالب الاجتماعية الملحة التي تطالب بها فئات كبيرة من الشعب التونسي، وبين السياسي الذي يعتبر "أولوية" حسب القوماني في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، والتي تتطلب انتقالا إلى سلطة سياسية منتخبة هي من تتولى شرعيا مهام ترجمة المطالب الاجتماعية. في المقابل يتهم عديد السياسيين بأنهم اختصروا عملهم على الحديث عن الموعد الانتخابي، وعلى تركيبة الهيئة العليا لتحقيق الثورة، والفصل 15 من مشروع القانون الانتخابي للمجلس التأسيسي، ونشرت مواقفها من الحكومة المؤقتة بين رافض ومدعم، وتناست بل جعلت من المطالب الاجتماعية محورا ثانويا في عملها السياسي، ولم تعمل على تعبئتهم.. غير متحملة ل"مسؤوليتها التاريخية" حسب رأي العديدين.