حاورته ليليا التميمي الدكتور مصطفى الفيتوري كاتب ليبي عاش متنقلا بين عواصم غربية وعربية كثيرة وجال قلمه في العديد من الصحف الانقليزية والعربية على غرار "ذي ناشيونال" وموقع "ميدل ايست أونلاين" و"تريبولي بوست" و"قورينا" منتقدا ما آلت إليه الأوضاع في الدول العربية لا سيما في وطنه ليبيا وواضعا الإصبع على العلل التي أرهقت الشعوب وأنهكتها وقد حصل الدكتور الفيتوري في جوان 2010 على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن مقال رأي بعنوان «استفد ودع الآخرين يستفيدون: وصفة ليبيا لعرقلة التقدّم». وللإشارة فإن الفيتوري مترجم ورئيس برنامج ماجستير إدارة الأعمال في أكاديمية الدراسات العليا في طرابلس ويحمل شهادة ماجستير في تكنولوجيا المعلومات من جامعة ماستريخت للإدارة في هولندا وشهادة بكالوريوس من الجامعة الأمريكية في أثينا وقد قام بترجمة ثلاثة كتب من الأنقليزية الى العربية كما يظهر كمحلل على عدد من التلفزيونات العربية والدولية. الدكتور مصطفى الفيتوري ينزل ضيفا على «حديث الأحد حول الثقافة والسياسة» ضمن حوار تكتشفون تفاصيله: ليبيا ممزقة بين رغبة جماهيرية في الحرية وبين اصرار القذافي على الحفاظ على الجماهيرية كما يريدها هو.. أين الدكتور مصطفى الفيتوري مما يحصل على أرض وطنه؟ - أعتقد أنه لا يمكنني إلا ان أكون مع الحرية والإصلاح وتحقيق طموحات الناس القانونية والشرعية والمقبولة أيضا إلا أن الأزمة الآن ومنذ أيامها الأولى أخذت طابعا بدا عليه العنف وبدا ما كان حركة مسالمة طبيعية في طريقه إلى الاختطاف من قبل من لهم مصلحة في استخدام العنف وفي مرحلة لاحقة الاختطاف تحوّل إلى سرقة واضحة بتدخل الدول الغربية المتلخصة في عمل عسكري يقوده حلف الشمال الأطلسي «الناتو». من خلال إجابتك يتضح أنك ضد العنف وأيضا ضد التدخل الأجنبي كما يتضح أنك تأخذ موقع الحياد فيما يتعلق بالشأن الداخلي الليبي. - أنا أقف مع ليبيا ومستقبل ليبيا وأؤمن أن المشكلة تظل ليبية ويجب أن يكون حلّها ليبيّا وبالتالي لا بد أن أكون وبقوّة ضد التدخل الأجنبي خاصة ما يجري الآن من عمليات عسكرية بقيادة الناتو الذي ليس مؤسسة خيرية وإنما يمتّن قوى استعمارية مهما كان توظيف الشعارات الخاصة بحماية المدنيين. أي دور مطلوب من مثقفي ليبيا للوصول بالثورة إلى المرفإ حيث ترسو أحلام الطامحين إلى التغيير؟ - بكل أسف ليست هناك نخبة ليبية مثقفة برزت إلى الساحة وإن كانت موجودة فهي لا تقوم بدورها وأسباب ذلك كثيرة لأن النظام السياسي القائم في ليبيا قبل 17 فيفري لم يسمح بتكوّن النخبة بالمفهوم التقليدي وبالتالي جعل اللّيبيين يظهرون وكأنهم مجموعتان تمارس كل منهما العنف ضد الأخرى تحت أي مبرّر كان.. أنا شخصيا وكما أسلفت أدين العنف وأعتبر أن حمل الليبيين للسلاح ضد بعضهم البعض مهانة كبرى يجب مسحها عبر التنادي إلى حوار وطني من أجل ليبيا فقط وعندما أقول من أجل ليبيا أقصد ليبيا الحرّة التي يقرّر مصيرها أبناؤها في كل أرجائها وأن تكون مستقلة القرار بعيدا عن التدخلات الأجنبية تحت أي مسمّى اللهم إلا مساعدة الليبيين على الحوار. قلت في جوابك أنه ليست هناك نخبة ليبية مثقفة برزت إلى الساحة وأرجعت ذلك إلى أسباب سياسية.. كيف تفسّر بروز اسم مصطفى الفيتوري الذي هو أنت؟ - بكل تواضع إذا جاز اعتباري من النخبة الوطنية الليبية فقد تكون من أسباب بروز اسمي أنني تعلّمت في الغرب أولا وأترفع عن الأنانية الضيّقة وأمتّن نوعا من الانفتاح في الرأي ولست مقولبا في تفكيري. حصلت في جوان 2010 على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن مقال بعنوان «استفد ودع الآخرين يستفيدون: وصفة ليبيا لعرقلة التقدّم» وهو رسالة سياسية مغلّفة بغطاء اجتماعي خلصت فيها إلى أنه «ليس من المفترض إنجاز أي شيء في ليبيا» وهي الحقيقة التي انتفض لأجلها الليبيون..أليس كذلك؟ - هي جزء من الحقيقة مع العلم أن هذا المقال الذي صدر بالانقليزية كتبته وأنا في ليبيا كما عشرات المقالات الأخرى التي كتبتها باللغة العربية وكانت أكثر قوّة ونقدا. تعطيل إنجاز مشاريع من قبيل مشاريع البنية التحتية وتعطيل إنجاز مشاريع قوانين عصرية وتحديثية على رأسها مشروع الدستور هي جزء أساسي من عوامل عدّة أدت إلى ما وصلنا إليه الآن. كنت تنبأت في أحد مقالاتك بصحيفة «ذي ناشيونال» وفي أعقاب حدوث الثورة التونسية أن المدّ الثوري زاحف نحو ليبيا لكن مع ذلك لم يؤخذ بما كتبت حتى وقع المحظور..وهذا يحيلنا إلى أن الأنظمة السياسية العربية لا تسمع إلا صوتها.
- لا أقول أنني تنبأت بل قرأت الواقع وكنت يوم كتابتي للمقال في القاهرة التي غادرتها قبل الثورة المصرية بعشرة أيام وكم تأسّفت أنني غادرت القاهرة ولم أعش هذا الحدث التاريخي وحاولت العودة إلى القاهرة إلا ان الظروف لم تسمح..يوم كتبت ذلك المقال كانت شواهد كثيرة في ليبيا تشير إلى ان البلد في ازمة حقيقية وعلى رأس تلك الشواهد استشراء الفساد الإداري والمالي وتعطّل مشروع الإصلاح. في مقال لك بعنوان «واقعنا بين زوج البغال» انتقدت الاتحاد المغاربي..أليس من المفارقات أن تنطلق الثورة الليبية في ذات اليوم الذي أعلن فيه قبل عقدين عن تأسيس الاتحاد المغاربي أي يوم 17 فيفري؟ - قد تكون مصادفة مع أن الأحداث انطلقت من بنغازي بسبب مؤثرات أخرى وهي في الحقيقة بدأت فعليا يوم 15 فيفري وتاريخ 17 تمّ تحديده مسبقا حسب مواقع الانترنت خاصة «الفايسبوك» و»تويتر» إلا انه يمكن الاستدلال على رمزية ما يربط بين تاريخ 17 فيفري كمنطلق الأحداث في ليبيا وبين تأسيس اتحاد المغرب العربي فتأسيس الاتحاد جاء بناء على مطالب شعبية مغاربية قديمة وملحة وتمّ تعطيل المشروع تماما كما جاءت أحداث بنغازي استجابة لمطالب شعبية ليبية تم تعطيلها سواء في الإصلاح ووضع حد للفساد أو فيما يتعلق بالدستور. ينظر القذافي إلى الثورة التونسية بمنظار غير الذي تنظر به إليها العديد من الشعوب العربية..هي تعتبرها ملهمة المنادين بالتغيير والحرية..وهو يرى أنها فتحت عليه «أبواب جهنّم»..كشخصية مثقفة ماذا تمثل لك ثورة تونس وما تلاها من الانتفاضات ؟ - أعتقد أن ما حدث في تونس كان حالة فريدة ..لم تكن عملا نخبويا فقط أو عملا تولته السياسات التقليدية كالأحزاب مثلا ولم يقم به الجيش بل كان عملا جماهيريا يفتقد للقيادة وهو سرّ قوّته وهو أيضا السرّ الذي جعل من تونس هذا البلد الصغير جغرافيا مصدر إلهام وهو الدور الذي كانت في السابق تحتلّه دول عربية أخرى تتميّز بنضج نخبها الثقافية والفكرية إلا ان أهم ما تحقق في تونس بعد الانجازات التقليدية الملموسة أمران اثنان: أولا - عودة تونس إلى محيطها العربي وتراثها العربي - الاسلامي ثانيا- قوة الانتماء القومي لدى المواطن التونسي الذي لم تنجح عقود من التغريب منذ الاستقلال في محوه بدليل أننا سمعنا هتافات قومية عربية بل رأينا أيضا صور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. الزعماء العرب بشكل خاص يمضون عقودا متكئين على آرائك الحكم وبمجرّد ظهور بوادر التململ الشعبي لا يتوانون في غرس قواطعهم في أجساد المنادين بالانعتاق كيف تفسّر الثقافة الدموية المتغلغلة في حكامنا وكل هذا العشق ل»الكرسي» ؟ - تفسيرها بسيط فالزعماء العرب هم نتاج لمجتمعاتهم التي تحكمها السلطة الأبوية القائمة على الطاعة العمياء التي تتعزّز عبر مناهج التعليم فليس منّا من يستطيع أن يرفع صوته في وجه أبيه مهما كان مخطئا وهذه السلطة تلغي أي استخدام للعقل كما تقفل أبواب الحوار وبالتالي يتصوّر من يعتلي سدّة الحكم أن تتعاطى شعوبهم معهم ضمن إطار السلطة الأبوية بحيث تتلخص السلطة في نظرهم في أسرة ويصبح المواطن ابنا للزعيم وليس مواطنا له حقوق وعليه واجبات وأذكر هنا أن الراحل السادات قد برع في توظيف تلك السلطة الأبوية لدرجة أنه كان يقول في خطبه» أبنائي أبناء العيلة المصرية» وعليه ألغى كيان الدولة وألغى الوجود القانوني والشرعي لمؤسسة الحكم وتحوّل المواطن إلى ابن في «العيلة» والدولة عائلة والخروج على هذه السلطة لا يمكن مقابلته إلا بالقوّة وسهولة استخدام القوّة في فكر الزعماء العرب أو القادة العرب يستنتد بالأساس إلى السلطة الأبوية وإلى نقص رهيب في الثقافة والتعليم وأيضا إلى أحادية التفكير. ولعل السبب الأهم أنه ليست لدينا نخبة سياسية عربية مثقفة بإمكانها مخاطبة الغرب بعقله ولغته ومردّ ذلك أن ما يسمى بالنخب العربية عاشت منغلقة في أوطانها وحتى الذين أتيحت لهم فرصة الهجرة حملوا مجتمعاتهم معهم باستثناء القلّة طبعا وسننتظر سنوات عديدة لنعوّض شخصية في حجم الراحل ادوارد سعيد الذي تشبّع بالثقافة العربية ولم ينغلق أمام الفكر الغربي بل أجاد استخدام أدواته بطريقة تفوّقت على عقلية الكثير من المفكرين الغربيين بشهادتهم ذلك أن وجود إدوارد سعيد كان مثلا أكبر مكسب للقضية الفلسطينية ورحيله أكبر خسارة لها..شخصيا أعتقد أن غياب ادوارد سعيد يمثل خسارة أكبر من خسارة الفلسطينيين في اتفاقيات أوسلو رغم ما يعتبر إيجابيا في تلك الاتفاقيات التي أسست لشيء اسمه الدولة الفلسطينية. البعض يتوقع سقوطا وشيكا للقذافي..هل أنت من هذا الرأي ؟ - أولا عليّ أن أشير إلى أن التدخل الأجنبي المبكر جدا في الشأن الداخلي الليبي كشف عن نوايا غربية تنتظر الفرصة للتخلص من نظام القذافي وهذا ليس سرا الآن بل بات مكشوفا وهو ما يفسر السرعة التي وصل بها ملف الأزمة الليبية إلى مجلس الأمن وطريقة التدخل السافر ممثلا في وصول «برنار هنري ليفي» إلى بنغازي في الأسبوع الأول من الأحداث. فيما يتصل بسقوط القذافي أعتقد أن تصفية النظام اتخذ في الغرب وستتم هذه التصفية بأي شكل من الأشكال وربما ينتج عن ذلك احتلال لليبيا أو رهن لمستقبلها السياسي واستقلالية قرارها الوطني إلا ان القاعدة التي أنتجت النظام هي قاعدة قبلية وهذه لن تنتهي حتى بعد 100 سنة وعليه يمكن الجزم بأن النظام قد يسقط في شكله التقليدي أي في شخص القذافي ولكن النظام كبنيان قائم على الولاءات القبلية في مجتمع قبلي ربما لن يسقط قريبا وبالتالي قد يكون هناك ديكور ديمقراطي في ليبيا لكن لن تكون هناك ديمقراطية بالمفهوم الحقيقي في المستقبل القريب لأن الديمقراطية ليست مصطلحا يروّج إنما الديمقراطية ثقافة وتعليم وممارسة وسلوك.