طرح العديد من الملاحظين والمحللين السياسيين جملة من التساؤلات كانت رائجة منذ فترة طويلة وتأججت بعد سلسلة المحاكمات الأخيرة وهروب بعض رموز الفساد، وأسفرت عن تنظيم مسيرات احتجاجية أول أمس. كانت هذه التساؤلات حول موازين القوى في الشارع اليوم التي يبدو أنها غير متكافئة في غياب التوازن والعقلانية في تحديد سقف كل مرحلة حتى يحصل التغيير الحقيقي، فالعملية السياسية تجري بجانب متطلبات اقتصادية وأمنية يكبر مداها يوما بعد يوم وإذا لم يقع الإسراع بالتقدم السياسي فإن دواعي الاقتصاد والأمن ستتغلب على السياسة. فمن الطبيعي وحسب رأي مسعود رمضاني عضو الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي "أن يخرج الناس إلى الشارع أول أمس ردا على سلسلة الوقائع المتسارعة التي ترجمت وبوضوح تباطؤ الحكومة سواء بخصوص القبض على رموز الفساد ومحاسبتهم أو إطلاق سراح البعض منهم وهروب البعض الآخر". وأضاف رمضاني "أن هذه المسيرات مثلت وسيلة ضغط على الحكومة بالرغم من اختلاف الشعارات بين مطالب بإسقاطها وبين مطالب بإعادة النظر في مسارها لتحقيق العدالة الانتقالية وتطهير القضاء حتى لا يقع الالتفاف على الثورة وأهدافها". كما أكد رمضاني أن الشارع التونسي يؤججه في هذه الأيام " الشعور ببوادر اندلاع ثورة مضادة مصدرها الوزارات غير القادرة على الإصلاح والتوجيه وإعادة البناء وهو ما قد يرجح إمكانية تواجد انفلات صلب الحكومة الانتقالية".
انقسام وفقدان للشعبية
من جهته أفاد السيد مهدي عبد الجواد أستاذ جامعي أن "الاحتقان الكبير الذي ساد الشارع التونسي والخوف على المسار الانتقالي كان وراء هذه التحركات والخروج من جديد إلى الشارع" ويعود ذلك إلى أسباب عديدة من بينها أولا "الإشكاليات التي عمت القضاء الذي لم يتمكن من أن يكون قضاء جزائيا وبالتالي تحقيق العدالة الانتقالية بالرغم من أنه كان بالإمكان الاستئناس بالتجارب الأجنبية في المرور من الديكتاتورية إلى الديمقراطية" وثانيها "عدم وضوح المسار السياسي فالانتخابات حددت يوم 23 أكتوبر ولكن السؤال المطروح ماذا بعد هذا التاريخ مع فشل التصاق الأحزاب بالشارع والواقع". وأضاف عبد الجواد أن مسيرة الإتحاد التونسي للشغل أول أمس "جاءت نتيجة فشله في إضراب النقل وهو بالتالي محاولة للأخذ بزمام المبادرة في البلاد، فالقيادة النقابية أجبرت على القيام بهذه المسيرة حيث أراد أن يوجه رسالة واضحة للحكومة ولبقية مكونات المجتمع بأنه لازال يمثل الرقم الخاص في البلاد". كما اعتبر السيد محسن الخوني اختصاص فلسفة أخلاقية أن "ما حدث هو عودة إلى الصورة التي عهدناها لبوليس بن علي، ولكنّ ما يدّعيه "خبراء الداخلية" من عمل على تغيير عقلية رجل الأمن وصقلها بلمسات من "أخلاقيات المهنة" وجرعات من "احترام حقوق الإنسان" بدا مجرّد ضحك على الذقون" وأضاف أن "ما جرى من دعوة المركزية النقابية إلى مسيرة تنطلق من بورصة الشغل وتنتهي في شارع محمّد الخامس يذكّرنا بداخلية بن علي وتلك المسيرات الكاركاتوريّة". كما أشار الخوني أن ماحدث أول أمس من "انقسام في مسار التظاهر لا ينفي الاتفاق على أن الوضع خطير في الأمن والقضاء وأداء الحكومة التي تعمل أغلب مصالحها بصورة منهجية على الالتفاف على الثورة وتبرئة الفاسدين والدفاع عن قضاء متورّط". وبين أن تلك الوقائع أفرزت طريقتين في العمل ذلك أن " شقّ المركزية النقابية ومن سار في ركبها يعود بنا إلى أسلوب معارضة ما قبل الثورة والشق الآخر ينطلق من مطالب تشرّعها الثورة" وأكد على أن "ما حدث أمس خطير بكل المقاييس ومن مختلف الوجوه ذلك أن الاتحاد في مركزيته يعلن تخليه عن أسلوب عمله عند انطلاق الانتفاضة ومن ثمّة فهو بصدد مزيد فقدان شعبيته، كما أن البوليس يتعامل بمكيالين لم يتعرض بأذى لمسيرة شارع محمّد الخامس المتواضعة، في حين ردّ بعنف شديد على الحشود الغفيرة التي كوّنت مسيرة شارع بورقيبة والتي لم يشارك فيها المحامون فقط". وهو ما أكده بدوره السيد مهدي عبد الجواد الذي اعتبر "أن الإتحاد العام التونسي للشغل قد فشل أمس في تبليغ رسالته إلى الحكومة الانتقالية وبالتالي لم يفهم طبيعة المرحلة التي أدت إلى إضعافه وتقلص شعبيته وهو ما أكدته الأعداد المواكبة للمسيرة وان وصفت بالحاشدة ولكنها لا تمثل قوة الإتحاد وقدرته على حشد المشاركين الذي قد يقدّر بالآلاف".