بقلم: الأستاذ رضا الكشتبان كان لزامًا على كلّ من تَربّى في أفقٍ معرفيّ عربيّ أن ينظُر بعينٍ دامعةٍ إلى ما تَعيشُه اللّغة العربيّة منذ عُقودٍ من الزّمن ترزحُ تحت التّهميش والسّخرية من المؤسّسة التّربويّة عامّةً وأهلها خاصّةً، أضحتْ موضوعَ تَندُّرٍ ممّن يُسمّوْن بأهل الاختصاص العلميّ الّذين عجزوا عن التّمكّن منها والنّهل من معينها الأصيل. وتحوّلَ العاجزون عن امتلاكها إلى قُوّةٍ مُعاديةٍ لها، فهي في نظرهم قاصرة عن احتواء علوم العصر، وتقنياتها محدودة في أُطُرٍ معرفيّةٍ تقليديّة لا تُخوّل لها اختراق عالم المعرفة المعاصرة ومكتسبات العلم الحديث... باتت غريبةً بين أهلها، العامّيّة تُحاصرُها واللّغات الأجنبيّة سرقت وهجها وأفقدته شرعيّة الحضور في ديار أهلها وذويها ؛ أولمْ يقُل نزار قبّاني: «أتكلّمُ الفصحى بين عشيرتي وأطيلُ فما هناك جواب»... إنّ اللّغة العربيّة بقيتْ تقاوم عديد الأعداء عبر الزّمن، يتربّصون بها، ولئن عجز المستعمر الفرنسيّ عن القضاء عليها بفضل المؤسّسات التّعليميّة الأصيلة الّتي وقفت سدًّا منيعًا دون تهميشها، فإنّ دولة الاستقلال بما لها من مزايا لم تولِ اللّغة العربيّة ما تستحقّ من الرّعاية والاهتمام، سواء في المؤسّسات التّعليميّة أو المؤسّسات الإعلاميّة، حيث لعب التّداخل اللّغويّ دورًا خطيرًا في تراجُعها، وازداد الأمر فظاعةً في العقود الأخيرة يوم أصبح الدّرس اللّغويّ في المؤسّسات التّعليميّة درسًا جامدًا، قواعد تُلقّن في قوالب جاهزة لا تنسجم والواقع المعيش، أمثلة تُدرّس تستدعى من أعماق التّاريخ لا يجد لها المتعلّم منفذًا إلى ذاته، فدروس الصّرف والنّحو والبلاغة كلّها ظلّت سجينة شواهد الماضي رغم سعي بعض كبار أساتذة الجامعة إلى بعث حياة جديدة للدّرس اللّغويّ على غرار الأستاذ عبد القادر المهيري والأستاذ صلاح الدين الشريف اللّذان اجتهدا في تجديد الدّرس النّحويّ. ولكنّ مراجع واضعي الكتب بقيت متنوّعة ومتعدّدة، ممّا شتّت مناهج المدرّسين، فكلٌّ يغنّي على ليلاه، أحدهم متمكّن من مناهج اللّغة الحديثة، والآخر يردّدُ ما ورد في الكتب القديمة... وهذا الاضطراب ليس إلا عنوان ضياع للّغة العربيّة الّتي ولئن شهدت مواكبة للمناهج الحديثة في الجامعة فإنّ تلميذ الثّانوي بقي حبيس الطّرق التّقليديّة، شاهدٌ فقاعدة، فمثال تطبيقيّ لا يتجاوز فضاء المدرسة ليجد لغة أخرى في الأفق الاجتماعيّ لا علاقة لها البتّة بما لُقّنَ. ويزداد الوضع سوءً عندما تُنتهك حرمتها في وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئيّة، فدلالات الألفاظ تدور على غير معانيها، وحركات الإعراب تاهت إلى غير رجعة، وهويّة الجملة تبحث عن نفسها بين الأفعال والأسماء، والبلاغة ظلت حبيسة «علي الجارم»، بلاغة واضحة في التّسمية، غامضة في الاستيعاب، درسٌ لغويّ مفارقٌ للواقع، غريب عن التّاريخ، ممّا انجرّ عنه فوضى في ذهن التّلميذ، تسأله عن النّحو فيجيبك صرفا، وتستفسره عن البلاغة فيحدثك عن العروض، رُكامٌ من المصطلحات لا رابط بينها ولا خيط ينظّمها إلى حدٍّ بلغ الأمر فيه أن يعجز الواحد عن تركيب جملة مفيدة هذا الغموض في البناء اللّغويّ المفرقع، ولّد ذهنًا مُشوّشًا ورؤيةً غامضةً... أوَليستْ اللّغة تعبيرًا عن الفكر البشريّ ؟ وليس غريبًا أنّ ما نشهده اليومَ من غياب للفكر النّقديّ والرّؤية الواضحة لدى الشّباب في المعاهد والمؤسّسات، ليس إلاّ إفرازًا لتعطُّل مَلَكة الرّبط المنطقيّ في ذهن الدّارس، ممّا أفقده صفاء التّفكير وعمق التّدبير، يُضاف إليه نزعة التّلقين لدى العديد من المدرّسين للدّرس اللّغويّ دونما تدبُّر في الفهم باعتماد كتب موازنة لم تزد النّاشئة إلاّ تَواكلاً ولوْكًا لمسائل لُغويّة قدْ تُقال ولا تُفهمُ وتُكتبُ ولا تُستوْعبُ، حتّى الدّرس البلاغيّ لم يتصالحْ مع واقعه ولمْ يُواكب تطوّرَه في المدارس الأوروبّيّة. فهل من المعقول أن لا نجد كتابًا معاصرا في البلاغة مواكبا للأسلوبيّة الحديثة، مَعينه شواهد من الواقع أوّلاً ومن النّصوص التّأسيسيّة ثانيًا، والحال أنّ لنا من العُلماء الأجلاّء الكثير ؟ أوَليس من الأجدى أن تُعطى اللّغة العربيّة حظّها ومكانتها في زمنٍ استبدّت به العولمة رغبةً في محق خُصوصيّات الأمم ؟ نرجو أن تستردّ اللّغة بعد 14 جانفي 2011 كرامتها وحرّيتها بعد أن ظلّت سجينة خُصومها ردْحًا من الزّمن غير يسيرٍ يستهين بها القاصي والدّاني، أهلها والغرباء عنها ولْيقفْ أهلَ الجامعة التّونسيّة بأساتذتها الكبار الّذين أسّسوا مدرسة لغويّة تجمع بين الحداثة الغاضبة والأصالة المستبدّة، وليتحرّر أساتذتنا من أسْر الإبعاد والتّجاهل ليُحرّروا لُغة الأجداد للأحفاد ؛ فلاَ حرّيّة لمجتمعٍ تاه لسانه وغربت لُغته.