بقلم: عبد الستار جربية «الشعب يريد !» هذا الشعار الذي عبر البحار والمحيطات والقارات وانتشر في كافة أنحاء العالم تجسّد يوم 23 أكتوبر 2011 وأظهر بوضوح أن الشعب التونسي بأسره متعطش للحرية وللقطع النهائي مع أبخس منظومة فساد عرفتها الإنسانية. فالإقبال العفوي والإرادي المنقطع النظير يشير إلى رغبة الشعب التونسي العميقة في قبر الألاعيب الهزلية للرئيس المخلوع ومستشاريه كما يبيّن الوقوف في الصف لمدة ساعات بصفة منتظمة وبدون ملل مدى التعطش إلى إنجاز مراحل العملية الإنتخابية بدون رقابة بوليسية جائرة وبدون رقابة ذاتية. ويعبر هذا الحدث الرائع عن إدراك التونسيات والتونسيين بأنهم كانوا في السابق يحسّون بالإحتقار وبالإذلال من خلال المسرحيات الإنتخابية دون أن تكون لهم الأدوات الناجعة التي تحميهم من صلف النظام المخلوع وأساليبه الانتقامية المتعددة. وإحقاقا للحق يرجع هذا الإنجاز إلى دور الحكومة الإنتقالية التي وضعت جميع الإمكانيات المادية والمعنوية على ذمة الهيئة المستقلة للإنتخابات كما يرجع الفضل إلى الأطراف الخارجية والمنظمات غير الحكومية التي تجاوبت مع نبض الشارع التونسي ومع ثورته المجيدة بتوفير ما لديها من إمكانيات لوجيستية ومعارف تقنية ومهارات مهنية. أما الطرف الآخر الذي يستحق ألف شكر فيتمثل في الهيئة المستقلة المكلفة بالإنتخابات. فلقد نجحت في إستغلال كل هذه الإمكانيات والتأليف بينها بفضل ما لدى عناصرها خصوصا على المستوى المركزي من روح مدنية ومن دقة تنظيمية ومن سلوك حيادي إيجابي. في ختام المرحلة الأولى من «النقلة» النوعية، أصبح التونسيون أقدر من ذي قبل على التفريق بين المهازل الإنتخابية وبين الإنتخابات الحقيقية ذات المعايير العالمية والتي تمكّن من ممارسة مواطنتهم ومن تأثير صوت كل واحد منهم على نتائج التصويت. ولكن هذا النجاح النوعي يخفي بعض النقائص التي تمثلت في الآليات المعتمدة لقبول مشرفين وإقصاء آخرين خاصة على المستوى الجهوي والمحلي كما يلام على الهيئة النقص في التدقيق في العديد من الترشحات التي لا تحترم بنود المجلة الإنتخابية أما السلبية الأخرى فتمثلت في كيفية طبع أوراق التصويت، فقد تبين أثناء الإقتراع أن الكثيرين من ذوي النقص البصري ومن المسنين ومن الأميين أخطأوا الهدف وإستفاد بأصواتهم أو بأوراقهم الملغاة أو بأوراقهم البيضاء غير الذين يحبّذونهم. فيما يخص النتائج التي باحت بها صناديق الإقتراع، فقد كرست هي بدورها شعار «الشعب يريد» فنصيب كل قائمة من عدد الأصوات مكّن من إستخلاص الدروس التي كان بعضها متوقعا وبعضها الآخر مفاجئا للجميع بدون إستثناء بقطع النظر عن آراء كل واحد منا أو إنسجامه مع هذا أو ذاك يتمثل الدرس الأول في معاقبة الأغلبية الساحقة لأغلبية القائمات المستقلة التي نشأت بصفة اعتباطية وكانت برامجها مطابقة لهذا الحزب التقليدي أو ذاك ممثّلة تشويشا Parasitage على المشهد الإنتخابي والسياسي. كما تجاهل أغلب المقترعين الأحزاب الناشئة بعد الثورة والتي لم يكن لها وجود سياسي سري أو علني في سنوات الرصاص. أما الذين تلقوا الإهانة أكثر من غيرهم فهي الأحزاب التي فرطت في مناضليها وإعتمدت على المال المشبوه فقد أنفقوا مئات الملايين على الإشهار الذي لا يحترم أبسط أخلاق التنافس الإعلامي والأحزاب الكارتونية التي رضيت بفتات السلطة التي جاد بها بن علي قبل الثورة. وفي نفس السياق، برزت مفارقة كبرى تمثّلت في «تقزيم» القوى اليسارية والقومية المتحصّنة بهياكل الإتحاد العام التونسي للشغل والتي كانت دوما قبل الثورة وبعدها قوة متنفذة ومؤثرة ومحددة لكل المسارات. أما الذي تلقى الضربة القاصمة فهو حزب العمل التونسي الذي كان ينوي إستغلال الثقل البشري لإتحاد الشغل. بحيث إذا إعتبرنا أصوات القائمات الفائزة والأصوات التي ضاعت لدى القائمات الأخرى، نتبيّن أن المجتمع التونسي يبحث في غالبيته على الإعتدال والوسطية وأن حركة النهضة فازت بفضل تنظيمها المحكم وخطابها الشعبوي. هذا دون أن ننسى دور الكثير من المساجد التي تحولت إلى منابر للتعبئة وقدرتها على إمتلاك إزدواجية الخطاب. وفي الختام، يجوز القول بأن الإنتخابات لم تكن متوسطة بل كانت رائعة وأن من يقدح في ذلك يريد فقط مواساة نفسه وإخفاء سلوكه الدنكيشوطي.