بقلم: صغير الصالحي خلص الكاتب في الجزء الأول من مقاله إلى أن جل النخب وعديد الأحزاب سايرت قرصنة أهم مرجعيات الثورة والتحريف التاريخي وفي الجزء الثاني ينطلق من : أهمّ احباطات الثورة : تحجيم بعض أبعادها... في خطوة لاحقة اجتهدت بعض النخب في انتقاء و تحريف مطالب ثوار المناطق الغربية بشكل لا يهدد، بل يدعم طبيعة ونسق علاقة الهيمنة التاريخية التي يفرضها المخزن على الأطراف أو بلاد السيبة. من نتائج هذه الاجتهادات أن أصبح للكرامة مفهوم قانوني صرف، و انكرت الطبيعة الجهويّة للحكم منذ الاستقلال ، و شكّك في وجود عنصرية اجتماعية تخلل ثنايا الثقافة المهيمنة. ان تستّر النخب و الأحزاب و السلطة ، على الطابع التمييزي بين الجهات التي كانت تتوخاه دولة ألاستقلال ومواصلة هذه الأطراف صياغة و توصيف الحيف الاجتماعي و الظلم في التنمية و الإقصاء في السياسة بنفس المصطلحات المألوفة لنصف قرن، لا يطمئن بل يبعث على القلق وعلى الانزعاج من طبيعة النوايا التي تؤشر على الرغبة في التخلي عمليّا على احد أبعاد مطلب الكرامة الذي رفعته الثورة في بداياتها و تحديدا في المناطق الغربية. يشكل عدم إقرار المخزن بأن مناطق و جهات بعينها، كانت ضحيّة تمييّز سيّاسي ممنهج وإقصاء تنموي متعمّد ,عاملا أساسيا في إفراز شعور بالضيم و الحق المهضوم لدى أهالي هذه المناطق ، فهم بتقديرهم ضحايا ظلم ثاروا تحديدا بسببه، الا أن النخب و السلطة و الأحزاب أفرغت مطالبهم من محتواها و حوّلت وجهتها إلى مسائل عامّة هي بالتأكيد مهمّة، لكنها لا تعكس عمق مآسيهم أو تعالج الحيف الذي استهدفهم، حيث خلّفت هذه التفاعلات حالة من الأحتقان والتوتر يعبر عنها البعض بمصطلح الحقرة والتي تبرز مفاعيلها على السطح كلما حدث استفزاز. جمهوريّة الحقوقيّين تفضّل المحامين على الشّهداء يمثل ملف الشّهداء عينة معبّرة لتعامل المخزن - السلطة والنخب- مع الأطراف. فمنذ البداية آثرت السلطة الحديث عن ضحايا، و كان اعترافها بوجود شهداء عسيرا و مجردا ، و كانت المتابعة الرسمية و مراعاة الحالات الاجتماعية ومعالجة الجرحى في أدني المستويات ، بل اكتفت السلطة بالتعامل مع الجرحى و أهالي الشهداء عن بعد، و ارتأت إن دفع مبالغ زهيدة من التعويضات سيكون كافيا لإسكاتهم و ذويهم ، انتهى الخيار العملي لجمهورية الحقوقيين القائمة حاليا بحكومتها ولجانها أن تعتبر ملف جرحى الثورة و شهداءها ثانويا وتعاملت معه بإهمال و تجاهل وازدراء . في الأثناء، لم تجد جمهورية الحقوقييّن حرجا في ايلاء الأهمية و إعطاء الأولوية لمرسوم فئوي ينظم مهنة المحاماة في خطوة تتسم بانتهازية و ضيق أفق رهيب لأصحاب القرار، وذالك رغم اعتراضات صادرة عن أطراف شتى في ظروف استثنائية بكل المقاييس. من المنطقي أن يسأل لماذا تأخرت جمهورية الحقوقيين، إلى شهر نوفمبر، رغم المطالبات، في إصدار مرسوم يعتني بالشهداء، وبادرت قبل ذالك بأشهر بإصدار مرسوم المحاماة في صورة مستعجلة بالرغم من كل الاعتراضات. من المرجح أن الاجابة تكمن في بعض مكونات عقدة المركز وعقلية المخزن التي فضّلت ، تحت تأثيرها ، جمهورية الحقوقيين الاستجابة الفورية لمطالب فئوية لذوي قرباها وإهمال من ضحى بنفسه. إن ما حدث في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني التأسيسي لا يخرج كثيرا عن نفس السياق، فهو نتاج لمزيج من الاستهتار والاستخفاف بملفّ الشهداء، يضاف إليه الارتجال و جرعة من السذاجة السياسية، يتقاسم هذا المزيج صاحب المبادرة و ثلاثي رئاسة الجلسة الافتتاحية و أعضاء المجلس كلّ فيما يعنيه . الكتاب الأبيض لوزارة التنمية أو نحو تجديد صيّغ الهيمنة أصدرت وزارة التنمية الجهويّة، منذ بضعة أسابيع، كتيّبا بالفرنسية في اقل من مئة صفحة أسمته الكتاب الأبيض وهو يقدّم عددا مهمّا من المعطيات و الإحصائيات المعبرة عن التفاوت بين الجهات للوضع الاجتماعي و الاقتصادي و في البنية التحتية، كما انه يقدّم جملة من المقترحات من بينها ما جاء به الفصل الثاني حيث يقترح المؤلفون بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، إعادة التقسيم الإداري للجهات مقدّمين تبريرات هزيلة و مقنّعة لا تستحق الغوص في تفاصيلها . يتضمن المقترح مثلا إلحاق الحوض المنجمي مع جزء من الساحل - المهدية- إلى صفاقس، ولا يرى كذلك حرجا في اقتراح جهة وهميّة تمتد من ولاية جندوبة إلى ولاية نابل وذلك في تضارب صارخ مع معيار القرب الذي اعتمدته تبريرات المقترح نفسه. إن الوظيفة السياسية لهذا المقترح تتمثل في تقديرنا في المرور بالجهات الغربية من و ضع الجهات الخاضعة للهيمنة إلى ما هو أسوأ، بإفقادها أولا لهويتها و بوضعها ثانيا في حالة إلحاق شامل تدور بموجبه في فلك الجهات المستفيدة، وبذلك تشتد الهيمنة و به يشّرع وضع اليد على الموارد مثل الماء و المناجم والأراضي التاريخية للسكان التي انتزعتها الدولة منهم و أسمتها بالدولية، و هكذا يتواصل التّهميش بصيغ أكثر إحكاما و توصد الأبواب أمام كل احتجاج سياسّي أو اجتماعي قد يحمل خلفية جهويّة. من تبعات التقسيم المقترح أيضا، محاولة حجب الرؤية عن حالة البؤس الاجتماعي و التخلف التنموي للجهات الخاضعة و ذالك بإغراق معطياتها في إحصائيات عامة تعطى معدلات لا تعكس واقعها ، انها ببساطة من صيغ تحريف الإحصائيات و تدليس المعطيّات. إن الدلالة السياسية لهذا المقترح لا تختلف في جوهرها عما عرض في مواقع أخرى من هذا النص، انه التخطيط مجددا لإحكام هيمنة المخزن ، و العمل على مواصلة ابتزاز الثروات و تحويل الموارد ، إنها سمات و منهج تعامل المخزن مع ألأطراف . لقد حسمت كل الشّعوب المتقدمة الإشكالات المتعلقة بالتقسيم الترابي و تحديد الأقاليم، باعتماد التضاريس الجغرافية و العناصر الثقافية و بإطلاق أسماء محايدة على أقاليمها، وذالك بالاعتماد على نفس العناصر، فهي بذلك تكرّس علويّة ثقافة الشعب على المصطلح الإداري. مما يسّهل انجاز هذا المطلب. إن جل جهاتنا تحمل أسماء تاريخية مثل: افريقيا، الجريد، الدّخلة ، السّاحل، لعراض ، خمير،السباسب، التل، الصحراء.. إن تعنّت المخزن في عدم الإصغاء، و اصراره على التشبّث بمكاسبه الموروثة تاريخيا عن البايات و الاستعمار و التعامل مع الأطراف من منظور الأخلاق و المشاعر ، بالاكتفاء بوعود فوقية أو بمعالجات سطحيّة لا تساعد حتما على التفهم وتجاوز المرحلة، بل هي تدفع إلى التشدّد في الخطاب والراديكالية في المطالب. ففي غياب معالجة رصينة و جديّة لعلاقة الجهات الغربية بالمركز، لن يكون مفاجئا إن ينتقل الوضع إلى حالة سياسيّة تصاغ عناصرها بمصطلحات جديدة، قد تكون الفيدرالية احد مفرداتها.