نور الدين عاشور - «تختار تونس ولاّ الصومال»؟ هذا عنوان ورد في العدد الأخير لمجلة «أكتوبر» المصرية وللوهلة الأولى يبدو العنوان جذابا ففيه إرضاء للنفس وشعور بشيء من الشوفينية لأن هذه المرة أصبح لدينا نموذج فعلي للتصدير, وعندما يتعلق الأمر ب»أم الدنيا» سيتضاعف كل شيء لدينا وربما وصلنا حدّ الغرور أو تجاوزناه. المقال بدأ بأن المقارنة بين ما يحدث على الساحة السياسية في تونس السائرة نحو الديمقراطية وما يحدث عندهم «يثير علامات استفهام عديدة» وبعد أن عددت كاتبة المقال المظاهر السلبية في مصر مثل تغوّل الإخوان والمليونيات الاعتصامية والصراعات القبلية وقطع الطرق والاكتئاب والإحباط ختمت مقالها بالسؤال: «هل نحن نسير في طرق تونس وتركيا، ولاّ في طريق الصومال؟». لكن تبقى هناك كلمة لا بد من قولها، وهي أن الكاتبة الصحفية علمت شيئا وغابت عنها أشياء.. ويبدو أنها غير مطلعة الاطلاع الكافي على تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية في تونس.. ولو قدر لها الحصول على معطيات مفصلة لاتخذ مقالها منحى آخر. المهم أن الأوضاع في مصر وتونس جد متشابهة, ونحن اليوم في بلادنا أمام مثلث تشكل فيه نقاشات المجلس التأسيسي وأزمة كلية الآداب بمنوبة واعتصام باردو زواياه الثلاث.. لكن لا تكفي الملاحظة والمهم أن نعرف ما هو الرابط بين تلك الزوايا التي جعلتنا محاصرين في ذلك المثلث. بعيدا عن التحامل والأفكار المسبقة وغيرها من الاتهامات التي تبدو مجانبة للواقع لا بد من التأكيد أن الفوضى والمطلبية الخارجة عن السياق والتعصب والتشدد كلها مترابطة ويجمع بينها خيط واحد وهو أننا نعيش أزمة فكر.. نعم أزمة فكر ومنها تتفرع أزمات سواء ما يتعلق منها بالممارسة السياسية أو السلوك الاجتماعي أو طريقة النقاش. إنه مثلث أشبه بمثلث برمودا لكن لا نريد لمن حوصر داخله أن يصبح مفقودا بل نتمنى أن ننجح جميعا في الخروج منه لنولد من جديد, نُخضِع المرحلة الحالية لطموحاتنا, نتحكم فيها, نسيّرها بفكر واضح ومنطق أوضح.. فالمرحلة ليست لتسيير السلبيات بقدر ما يتعين وضع حدّ لها وليست للتفنن في حجب العجز عن الالتقاء حول طريقة بناء الديمقراطية واحترام بعضنا البعض. عبارات بسيطة لكن الواقع الحالي كشف أننا حتى في المجلس التأسيسي نفتقر إلى وعي سياسي, ونسهو عن احترام بعضنا ونحاول تمضية الوقت فيما لا يعني من مواضيع وشكليات والحال أن الأمر يتعلق بسنة ونصف، المطلوب أن تتحقق خلالها صياغة دستور وتشكيل سلطة مؤقتة,, كل ذلك يعود إلى فراغ فكري ناتج عن عدم إلمام بأصول الممارسة السياسية. ومن سوء الحظ أن وقوع النواب تحت وطأة التخوف من هيمنة حزب أوتحالف أو تيار أو الرغبة في التحكم في مصير الحياة السياسية بما يكفل -مستقبلا سيطرة أحزاب معينة على الحياة السياسية وبالتالي على الحكم, جعل همّ جانب من أعضاء التأسيسي منصبا على المواجهة وهي في هذا السياق مواجهة بين الأغلبية والمعارضة.. بين سبل الديمقراطية وشبح الدكتاتورية. ويبدو أن جانبا من طبقتنا السياسية مطالبة بالاطلاع على تجارب الآخرين, فنحن لا نبني ديمقراطية من عدم ولا يجب أن نخدع بعضنا البعض بأن خصوصياتنا تجبرنا على خوض طريق خاص في العمل بالديمقراطية.. في الديمقراطية ليست هناك استثناءات بل هناك قواعد متفق عليها وأسس يتعين اتباعها في البناء الديمقراطي وممارسات ينبغي النسج على منوالها حتى لا نشوه الديمقراطية بممارسات مضادة هي بالتأكيد نتاج وضع فكري يتعين التحرر منه. والتحرر في هذه الحالة سيكون تدريجيا لكن لا بد من مجهود يبذل ومن ممارسات تكتسب والاستفادة من خبرات الآخرين.. فهل سنسمع يوما ما أن حزبا أوفد بعض أعضائه للتعرف على كيفية عمل الكتل الحزبية في البرلمان الأوروبي.. كيف تنسق وتعرض برامجها وكيف تناقش في ذلك البرلمان؟ وهل سيرسل حزب ما أعضاء له إلى أمريكا للاطلاع على كيفية عمل أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس؟ وهل يتحول أعضاء حزب ما إلى تركيا للاطلاع عن كثب على تفاصيل الحياة السياسية هناك وكيفية توفيق الحكومة بين تمرير سياستها واحترام آراء بقية الأحزاب؟ إنها مجرد تساؤلات تطرح، أملا في أن تتحرك الهمم للارتقاء بالحياة السياسية بتشريك نخبنا الجامعية والاستفادة من آرائها ومما توصلت إليه آخر الدراسات والأبحاث. عندما نجد يوما ما نواب الشعب يقومون بدورهم الأساسي بعيدا عن كل ما هو سياسوي.. وحينما تكون عندنا حكومة تعمل على أساس برنامج واضح المعالم, وأحزاب تنطلق من الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ونتائج ومحاسبة، يمكن الجزم بأن الممارسة لم تعد تنطلق من فراغ. صحيح أن الطريق مازال طويلا خصوصا عندما نلاحظ كيف يمكن أن تتلبد سماء الديمقراطية بسحب الاعتصامات والمطالب التي لا تنتهي والعنف في الجامعة الواقعة بين فكي الاستقطاب السياسي والاديولوجي.. نعم الطريق طويل، وأطول منه كيفية تخلص العقلية التونسية من ضيق الصدر والتسرع في إصدار الأحكام وعدم الإنصات لبعضنا البعض وامتلاك الحقيقة الكلية. إن إعادة البناء الفكري تبدأ ببرامج تعليم جديدة، وجامعة مستقلة عن السياسة، ووسائل إعلام تنفتح على كل ما هو فكري قصد التأسيس لفكر جديد سمته التعددية، ولن يكون ذلك من عدم بل بربط الصلة مع باكورة الفكر الإصلاحي التونسي ومع خلاصة ما أنتجه الفكر العربي عموما خلال أكثر من قرنين وربط صلة «ندية» مع الفكر الغربي لأننا في عالم تسوده قيم كونية وتترابط فيه المصالح وتتشابك. هذا ليس حكرا على تونس، بل إن أية دولة عربية معنية بإعادة بناء الفكر حتى لا نسير بالفعل في طريق الصومال، الذي لا يعني بالضرورة الفقر والمجاعة، بل أكثر من ذلك التعصب والتطرف والحوار بالسلاح.. في عبارة واحدة تغييب الشعب بشتى الأشكال وبكل التعلات.