أيّ دستور نريد؟ وأية وظيفة لهذا الدستور؟ سؤالان جوهريان حاول خبراء ومختصون الإجابة عنهما خلال ندوة حول "التوافق في كتابة الدستور في المراحل الانتقالية " نظمها مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية بالتعاون مع جمعية المجلس المدني والجمعية التونسية للقانون الدستوري يومي 28 و29 فيفري. فاختيار مصطلح التوافق، حسب المشاركين، يُراد به أن تكون صياغة الدستور بعيدة عن كلّ التجاذبات والحسابات السياسية، بما يمكن من انتاج دستور توافقي يجمع كلّ التونسيين والتونسيات في وثيقة تأخذ بعين الاعتبار أوسع عدد ممكن من الحساسيات، مغلبة مبدأ التوافق على مبدأ الأغلبية، وبالتالي قد ينتظر من نواب المجلس الوطني التأسيسي أن يجتمعوا وبطريقة توافقية على أفضل الخيارات بخصوص شكل الدستور ومكوناته الأساسية وبخصوص النظام السياسي وعلاقة الدين بالدولة ومكانة الهوية في النظام الديمقراطي الجديد.
الإنتظارات
وفي هذا السياق طرحت الندوة محاور أساسية حول "التوافق في كتابة الدستور"، "الهوية ومدنية الدولة والنظام الديمقراطي"، "مساهمة المجتمع المدني" في هذه الكتابة، "المكونات الأساسية للدستور: دساتير مختصرة أم دساتير مفصلة" لتختم الندوة بتقديم "نموذج دستور تونس الجديد" أشرفت على كتابته لجنة خبراء. جل المداخلات والنقاشات دارت حول ضرورة أن يستجيب هذا الدستور لإنتظارات التونسيين بمختلف انتماءاتهم الثقافية والإجتماعية والسياسية دون أن يمس من هويتهم، ويضمن حقوقهم في إطار نظام سياسي ديمقراطي، وهنا نقطة الفصل حيث طرحت إشكالية أساسية جديدة مفادها "أي نظام سياسي نريد؟ " حاولت الأستاذة سلسبيل القليبي عن الجمعية التونسية للقانون الدستوري مناقشتها من خلال تأكيدها على أنّ الغايات المراد تحقيقها هو القطع مع أي "حكم مشخصن وإستبدادي يكرسه طرف أو جهة واحدة" إلى جانب القطع مع ثقافة "تغييب المسؤولية" التي كرستها الأنظمة السابقة وذلك "بالربط بين السلطة السياسية والمسؤولية فلا مجال للعودة للحصانة التي عانى منها التونسيون في السابق".
الآليات والضمانات
فأن "نختار نظاما برلمانيا أو رئاسيا أو المزج بينهما"، على حدّ قول الأستاذة سلسبيل القيلبي، "فهذا لا يهم بقدر ما يهمنا الآليات التي نريد من خلالها تكريس نظام ديمقراطي يحقق مبدأ الفصل بين السلط الغاية منه الإقلاع نهائيا عن تمركز السلطة من قبل جهة واحدة وكسرها دون الإخلال بالوظائف الموكولة لها" وبالتالي ضرورة الإقرار "بالحاجة إلى تشريع يقوّم هذه السلطة وبجهاز يسهر على تنفيذ هذه التشريعات وبالتالي إحداث هيئة محايدة مستقلة تبتّ في مختلف النزاعات" ولذا "لا يكفي التفكير في توزيع السلطات بل يجب أيضا منحها ملكة الردع وحماية اختصاصاتها من محاولة تدخل السلطة الأخرى بالسيطرة عليها". ولعل شعور بعض مكونات المجتمع المدني بمن في ذلك مستقلين وحقوقيين بخطورة أن تطغى الحساسيات والإنتماءات الإيديولوجية على صياغة الدستور خاصة بعد ما وقع تداوله مؤخرا حول مسألة الدين والدولة من جهة والدين والسياسة من جهة ثانية فتعالت الأصوات المنادية بضرورة عدم فصل الدين عن السياسة وأصوات أخرى ارتأت ضرورة الفصل وبالتالي إقرار مدنية الدولة. وفي هذا السياق أكّد الأستاذ عياض بن عاشور في مداخلته أول أمس حول "دستور تونس: توصيات في الشكل والمضمون" أنّ "الدستور يعتبر جملة من المبادئ العامة للنظام السياسي التي تحدد الإجراءات الصادرة عن السلط العمومية" يُشترط فيها، حسب رأيه، أن تكون في ترابط مع الواقع "السوسيولوجي" للبلاد دون أن تكون مسقطة أو مستنسخة عن تجارب عالمية.
الدين والهوية
كما شدّد بن عاشور على أن لا يقع التغاضي عن جملة الترتيبات التي تحيط بكتابة الدستور المتمثلة في ما أسماه ب "العوامل المحيطية" بما في ذلك المحيط الدستوري السابق والمحيط التاريخي لتونس والمحيط السياسي التي تمرّ به البلاد في هذه المرحلة الراهنة وبالتالي ضرورة أن لا تكون صياغة الدستور على "رؤية حزبية واحدة ذات طابع إيديولوجي". فدعا بن عاشور إلى إحداث "مجلس قضاء الدولة" يجمع في ذات الوقت بين المحكمة الدستورية والمالية والإدارية، مؤكدّا على أنّ "الدولة المدنية هي الخيار الأفضل لتونس، فهي لا تطرح أفقا تيوقراطيا أو عسكريا لأسلوب الحكم وإنما هي عقد اجتماعي ناتج عن توافق بين جميع المواطنين". ومن جهته أكد محسن مرزوق مؤسس مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية على أن يكون الدستور المنتظر "نقطة وصل بين المحلي والكوني" فلا يكون بالتالي بمثابة "الغنيمة السياسية" بل يتقيد بالقيم الداخلية وبالتوازنات السياسية المحلية.
مدنية الدولة
وأضاف مرزوق أنه لا يجب أن تخضع صياغة الدستور إلى منطق "الغالب والمغلوب باعتباره نصّ يهم جميع التونسيين وليس فئة حزبية بعينها" داعيا إلى ضرورة "التعالي عن القناعات الإيديولوجية لإيجاد مشترك وطني مع جميع الأطراف". ولا يخفى على أحد ما أثاره الفصل الأول من دستور سنة 1959 بعد الثورة من تجاذبات بين أطراف ذات توجهات علمانية وأخرى لائكية وجهات ذات توجهات إسلامية خاصة فيما يهمّ "الهوية" والتي كانت المحور الثاني الذي وقع تداوله في الندوة تحت عنوان "الهوية ومدنية الدولة والنظام الديمقراطي: في التوفيق الدستوري بينهما" حيث أكد الأستاذ صلاح الدين الجورشي رئيس المجلس التأسيسي المدني على أنّ "الهويّة تمثل عنصرا حيويا في كلّ المجتمعات التي تعيش فترة انتقال ديمقراطي وتزداد هذه الأهمية في المجتمعات التي تعيش تحولا في علاقتها بذاتها والآخرين وخاصة منها المجتمعات الإسلامية" وأضاف الجورشي في تساؤله "هل للدولة هوية وهل للدولة دين؟" فأجاب أنّ "لكل دولة في العالم سياقها الثقافي والتاريخي والاجتماعي والسياسي بما في ذلك الدول التي بنيت على أساس التمييز بين الدين والدولة" فأكد أنّ "الدولة كيان له هوية والدولة تشكل حالة استمرارية لا يمكن أن تُبنى بالقطع مع القديم الذي يجب تفعيله وبالتالي فإنّ الدولة مسؤولة عن حماية الهوية الجماعية، والدولة التونسية هي إسلامية بالمفهوم التاريخي، فمن الخطأ أن تسقط عليها صفة الإسلامية كصفة ايديولوجية لأن هذا سينعكس على حقوق التونسيين وخاصة حق حماية المعتقد المكفول للدولة".