لم يختلف المناخ العام في البلاد عن المناخ الطبيعي الذي عشناه خلال الأسبوعين الماضيين من ثلوج وفيضانات وهدير مياه وادي مجردة الزاحف على المدن والقرى، وكأنه أراد إثبات وجوده على أنه مصدر خير إن لقي الاهتمام والسهر على مجراه ومتابعته. تأثيرات الكارثتين الطبيعيتين تكاد تؤكد في الظاهر وجود كراهية بين الماء في حالته الطبيعية وفي تجمّده وبين الإنسان أما الجوهر الخفي فهو قابل للنقاش والتأويل، ليجعل المرء يخرج باستنتاج مفاده أنه يمكن إرجاع كل شيء إلى مكونات تجمع بين الخير والشر، وكذلك الإنسان إنه نسب متفاوتة من المفهومين. في شأننا العام اليوم خرج مفهوما الخير والشرّ إلى العلن، لكن بعد تلبيسهما بما يتماشى مع السياق السياسي والاجتماعي، حيث تعددت الاتهامات للإعلام ومعها تكثفت تسريبات مفادها وجود محاولات لإسقاط الحكومة، فيما كانت مدن وقرى بأهاليها ترزح تحت قساوة الطبيعة. كل هذا تزامن مع مرور شهرين على تولي الحكومة الائتلافية مهامها، وهي فترة لا بدّ من الاعتراف أنها شهدت مدّا وجزرا وتصعيدا وتوترا ومحاولات تهدئة على أكثر من صعيد لكن لا بدّ أولا من التأكيد مجددا على أنه يتعين ترك الحكومة تقوم بمهامها وليس من طبيعة أيّة معارضة -سواء كانت ممثلة أو غير ممثلة- العرقلة لأنه أمر مرفوض وغير منطقي وغير ديمقراطي أيضا وهو ما يعني تجردا من حسّ مدني وحضاري وتغليبا للفوضوية ونحن لسنا في حاجة إلى هذا المفهوم بل لا مكان له في بلد ينشد البناء الديمقراطي والقطع مع الديكتاتورية ومع كل أشكال انتهاك الدستور وتجاوز القوانين والضرب بالقيم عرض الحائط. ولا بد من الاعتراف أن الحكومة واجهتها، ومازالت تواجه عديد الأزمات، وقد يرى البعض تقصيرا منها، فيما يرى آخرون أنها قامت بكل ما تتيحه لها الإمكانيات، لكن هناك أزمات -والبلاد في غنى عنها- ما كانت أن تحدث لو تمّت قراءة واقع البلاد قراءة متكاملة، تضع الخير في الطليعة وتترفع عن الشرّ المتجسّد في النوايا والرغبات. فإثارة الضجّة حول الإعلام ليس في مصلحة الحكومة وفي هذا الظرف بالتحديد لأنه مهما كان المنطلق تبقى هناك فكرة رئيسية تتمثل في احتمال تعرضه إلى التهديد عبر محاولة الهيمنة عليه. وعلى افتراض أن هناك تجاوزات في الإعلام فهي ليست سوى نتيجة متوقعة في هذه المرحلة من تاريخ البلاد وهي مرحلة بناء وتدرّب على الديمقراطية وعلى ممارسة الحرية بل الحكومة نفسها معنية بمرحلة التدرب، ويتعين تقبّل بعض الهفوات وحتى الأخطاء، وبالتالي ينطبق المثل «كلنا في الهوى سواء» على هذا الوضع، لكن أصبح الأمر تشكيكا كليا في الأداء الإعلامي ومحاولة لتعميق عدم الثقة بين الإعلام والمواطن، وهو ما يحول دون النهوض بالقطاع. أما الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والنهضة فقد أفادت الاتحاد أكثر مما أفادت الحركة أو الحكومة ككل لأنها -بقطع النظر عما قيل عن أسبابها- ليست في حجم الاتحاد كمنظمة عريقة، ولا في مكانة النهضة كحزب سياسي له قاعدته الشعبية ولا في قيمة الحكومة الائتلافية التي لا بدّ من الإقرار بمساهمة شرعيتها في تهدئة الأوضاع، وفرض الاستقرار في البلاد حتى إن كان ذلك نسبيا باعتبار أن القليل أفضل من اللاشىء. وعلى أية حال برهنت الأزمة أن افتعال الأزمات ومحاولة إلهاء الرأي العام عن المشاغل الرئيسية مثل أزمة الثلوج والفيضانات وصياغة الدستور لا ينفع بقدر ما تكون له انعكاسات وتأثيرات وتبقى عالقة بالأذهان على أساس أنها ممارسات خاطئة وليست مجرّد أخطاء. تبقى في الأذهان فقط لأن المفاوضات استؤنفت في نهاية الأمر بين الاتحاد والحكومة للنظر في ما يهمّ البلاد، خصوصا العمل على الخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وإرساء مناخ اجتماعي سليم بعيدا عن الرهان على التعددية النقابية بوصفها وسيلة يمكن المساومة من خلالها. وتبقى مسألة الاتهامات بمحاولة إسقاط الحكومة وهي مسألة -حتى وإن وجد البعض فيها مادة للحديث والتعليق والتأويل- لا نجد لها سببا مقنعا شكلا ومضمونا.. فما معنى أن يتجند رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ومستشارها للإعلان (ولا نقول للإيحاء) عن محاولة لإسقاط الحكومة في شهر مارس فيما كان يفترض أن يكون الإعلان من قبل مسؤول واحد يسمّي فيه الأشياء بأسمائها ويحدّد المتهمين ويطرح الملف على التحقيق من قبل الجهة المعنية. فهذا التجند الثلاثي يضع مصداقية مؤسسات الدولة في الميزان وهي مؤسسات نريد لها هيبة، ولا تنساق في أحاديث لا تختلف عن أحاديث المقاهي حيث يمكن التركيز على المؤامرة في غياب المعطيات الدقيقة والصحيحة. ولاشك أن جانبا كبيرا من التونسيين يرفضون أسلوب التآمر على أيّة جهة رسمية خصوصا إذا تعلق الأمر بحكومة منبثقة عن انتخابات حرّة ونزيهة لكن لا بدّ من طرح المسألة بما يتماشى مع حجمها وخطورتها وتأثيراتها المحتملة وهنا لا بدّ من المرور من مرحلة الاتهام إلى طور التحقيق. وإذا كانت الاتهامات قد جاءت في سياق ضغظ من المعارضة داخل المجلس التأسيسي أو خارجه خصوصا بعد الفيضانات فإن الردّ عليها لا يكون بمثل هذه الطريقة، ذلك أن الأحزاب والمنظمات والإعلام لها هامش أوسع عند الحديث عن الوضع بعد الثلوج والفيضانات، فيما أن أصحاب القرار معنيون بالتمسك بقواعد وأعراف تشكل جزءا من مهامهم الرسمية. ولسائل أن يسأل ونحن في شهر مارس، أي على أبواب موسم سياحي (مفترض)، ما مدى احتمال تأثير مثل تلك الاتهامات على السياحة؟ ومن وراء ذلك على نوايا الاستثمار الأجنبي، وعموما على صورة تونس الثورة في العالم، وهي التي انطلق منها الربيع العربي، وكأننا نعيد مراجعة أنفسنا لأننا لم نقدر على التأقلم مع الديمقراطية وفشلنا في تصريف نتائج الانتخابات. إن البلاد ليست في حاجة إلى انقسامات عميقة قد تترك آثارا نخشى أن لا تمّحي، وقد تزيدها الصراعات الإيديولوجية تأجيجا، خصوصا أننا مقبلون على مواعيد انتخابية وعلى مرحلة جديدة من تاريخ تونس، بطيّ صفحة المرحلة الانتقالية نهائيا.