صدرت مؤخرا عن المركز المغاربي للنشر والتوزيع بتونس قصة جديدة موجهة للأطفال واليافعين بعنوان "عفوا يا مريم". تدور أحداث القصة حول "سنية" الفتاة اليتيمة التي تكتوي بنار الحزن على فراق الوالدة فإذا بوالدها وتحديدا في الذكرى الأولى لرحيل والدتها يتزوّج بأخرى ويزوّد من أحزانها وآلامها ويزيد جراحها عمقا. الحكاية بسيطة بل حتى مستهلكة. فقصّة الطّفلة اليتيمة التي تثير الشّفقة من كثرة ما تعرّضت له من إهمال من الأب بعد زواجه بامرأة أخرى تنسيه زوجته الأولى وأولاده منها قصّة أدمت قلوب الكثير من الأطفال. لطالما أبكت قصة السندريلا وبيضاء الثلج الأطفال تأثّرا بمعاناتهما وغيرهما من شخوص القصص المماثلة ولطالما آلمت قصّتهما الكثير من الأجساد الغضّة والنفوس البريئة التي تكتشف وهي تتصفّح القصّة وجها من وجوه البشر ما كانت تتصوّر وهي على صفائها ونقاوتها وبراءتها أن البشر يمكن أن يكونوا على تلك الدرجة من الوحشية والقبح. ولكن قصص الأطفال الذين يتركون لحالهم يتجرّعون مرارة اليتم والوحدة والألم في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى المساعدة وإلى الأمان تبقى مفيدة للقارئ الصغير لأن الكاتب وإن كان لا يهدي القارئ الصغير حكاية مبتكرة فإنه يعوّض عن ذلك باشتغاله على الأسلوب وعلى اللّغة وبالتالي فإنه يهدي نصوصا للقارئ الصغير تقوم على أسلوب مشوّق وتعتمد على لغة فيها من الجهد ومن البحث ما يجعل القارئ متلهفا على النص متشوقا لمتابعة الأحداث مستفيدا في الآن نفسه من الأوصاف ومن التراكيب الحلوة.
الحكمة عند الصغار
ونستطيع القول أن قصة «عفوا يا مريم» للكاتبة وأستاذة علوم التربية فتحية عبيشو تندرج في هذه الخانة فهي وإن استعادت تقريبا نفس الأحداث المعروفة والتي تكاد تكون منتشرة في مختلف القصص والحكايا الخاصة بالأطفال وتداولها الأدب العالمي الموجه للأطفال واليافعين فإنّها كستها طابعا تونسيّا واعتمدت أسلوبا مميزا ولغة سلسة وجميلة محلاّة بالتعابير المنتقاة بشكل جيد. ولم تكتف الكاتبة بسرد أحداث مثيرة ومؤثّرة وإنما حاولت أن تغوص في ذات البنت وتسبر أغوارها وتصل إلى عمق ما يختبئ فيها من مشاعر. لقد شخصت الكاتبة معاناة الطفلة بأسلوب ذكي. ذلك أنها تستدرج القارئ الصغير إلى عالم هذه البنت اليتيمة وتجعله يتوقع في كل لحظة تصرفا غير ملائم من هذه البنت المتروكة لحالها ثم تفاجئه بحكمة البنت رغم صغر سنها وبانتصار الحلم واللطف على أيّ شيء آخر فيها. كانت قبل ذلك قد هيأت هذا القارئ لتقبّل أيّ فعل من البنت بل وأن يجد لها عذرا فالأحداث كانت تصف فتاة تتألّم في وحدتها وتتحمّل لوحدها وهي الطفلة الصغيرة التي لم يقْوَ عودها بعد ولم تتمرّس على الحياة حتّى تستطيع مقاومة مصائبها. سنية كانت على امتداد صفحات القصة فريسة للهواجس التي تتزاحم على رأسها الصغيرة تنهشها الحيرة ويدمي قلبها اهتمام والدها بالرضيعة مريم مقابل إهمالها هي بالكامل. سنية تكره زوجة الأب جميلة. إنها تكرهها وتكره عطرها الكريه ولا تراها إلا قبيحة. إنّها تغار من أختها الرّضيعة مريم وتراودها الأفكار تجاهها وتجد صعوبة في مقاومة شعور الكراهية فقلبها الصغير لا يتحمل كل هذا الضغط ووالدها غير آبه بما تعانيه في صمت. لكنها تجد الدواء في نهاية الأمر في الرضيعة حيث تدفقت الرحمة في قلب هذه البنت مكسورة القلب بمجرد أن اقتربت من أختها الرضيعة. لقد أنهت الكاتبة القصة بطريقة مخالفة لما يتوقعه الطفل. فهي لم تجازف بنهاية سعيدة تماما مثلما هي نهايات قصص الخيال الغابر. لقد اختارت أن تخاطب عقل الطفل وتثير خياله بأن تتركه يفكر في النهاية. فقارئ هذه القصة لا يلقي بها بمجرد معرفة نهايتها وإنما نخاله يخصص وقتا للتفكير في هذه النهاية. الكاتبة وهي خبيرة في علوم التربية تدرك أن تنمية مدارك الطفل لا تتم بشكل جيّد إلا بالتشجيع على الأسئلة وباستفزاز عقله وحثه على الاشتغال باستمرار.