في ساعات حكم بن علي الأخيرة ونظامه ينازع الشعب الثائر على تثبيت شرعيته.. تفتق ذهن الدكتاتور على «حيلة» يتفصّى من خلالها من مسؤوليته في تقتيل الأبرياء والتنكيل بالمحتجين ومسؤوليته في تردّي أوضاع البلاد.. ومخرَج التفصّي كان باستنباط لجان لتقصّي حقائق ما آلت إليه الأوضاع ومعاقبة الجناة في سيناريو مفضوح لذرّ الرماد في العيون.. وخلع الشعب بن علي وسقط نظامه لكن فكرة لجان تقصّي الحقائق التي ولدت من رحم الدكتاتورية ظلّت سارية المفعول وواصلت عملها بهدف كشف الحقائق الخفية وكانت على رأس هذه اللجان الأكثر شهرة لجنة تقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة واللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة إبان أحداث الثورة التي بزغت شمسها في فيفري 2011 وترأسها توفيق بودربالة.. وباتت منذ ذلك الوقت لجان تقصّي الحقائق تقليعة ثورية تونسية بامتياز وسنة حميدة ننتهجها كلما تشابكت الأمور وتأزّمت الأوضاع.. لكن جعجعة اللجان لا نرى لها طحين نتائج، ولا نقف لها على حقائق، كان من المفروض أنها تقصّتها وتلك علة وجودها..
أحداث شارع بورقيبة.. وجرعة «المورفين»
ليس من قبيل التنبؤ بالغيبيات أو التكهن بالمستقبل القول أن أحداث شارع بورقيبة المؤسفة والتي يندى لها الجبين متوقعة ومنتظرة بعد أن بلغ الاحتقان أوجه في أكثر من منطقة وأكثر من جهة.. فالأسابيع والشهور تمضي وصنّاع الثورة لم يجنوا ثمارها.. والملفات الحارقة لم تحسم بعد بل راكمت فترة ما بعد الثورة ملفات أخرى منها غلاء المعيشة وغياب الأمن الاجتماعي وتنامي معدّلات البطالة بطريقة خطيرة وغير مسبوقة بالإضافة إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية.. حالة الخوف هذه التي باتت ترافق المواطن في غدوّه ورواحه «شلت» تفكيره وأثارت فزعه الداخلي وأصبح كزجاجة «المولوتوف» التي تزعم الداخلية بأنها ذخيرة المحتجين وسلاحهم في مواجهة الأمن الجمهوري المنضبط والملتزم والذي يحترم حقوق الإنسان ويذود على حرمة المواطن التونسي! الذي أصبح بدوره قنبلة موقوتة مثله مثل «المولوتوف» قابلا للانفجار في وجه أي كان وهو الرازح تحت وطأة البطالة والفقر وتردّي الأوضاع المعيشية والاجتماعية.. أحداث ذكرى الشهداء ستبقى وصمة عار على جبين الثورة وصفعة في وجه الحكومة الشرعية.. ولكن رغم ذلك نثمّن دور المجتمع المدني في هذه الانتكاسة الثورية بحيث استبسل في فضح هذه الانتهاكات والتصدّي لها، جمعيات وأحزابا وشخصيات سياسية.. عكس جلسة المساءلة لوزير الداخلية في المجلس التأسيسي حول أحداث شارع الحبيب بورقيبة إذ نعتقد أنه كان أحرى بنواب الشعب أن ينزعوا جلابيبهم الحزبية ويتكلموا باسم المواطنين لا أن تتحوّل هذه الجلسة إلى فريق هجوم تقوده المعارضة داخل التأسيسي والتي غابت الحكمة والرصانة على بعض تدخلات نوابها.. وفريق دفاع تقوده النهضة وتستبسل من خلاله في الدفاع على وزير الداخلية علي العريض تارة بالهجمات المضادة وطورا بالتذكير بالنضالية والمعاناة الطويلة لدحض الاتهامات في مسار لشخصنة القضية وكأن المحتجين أرادوا الاقتصاص من النهضة الممثلة في شخص وزير الداخلية.. فتسييس القضية بهذا الشكل السخيف جعلنا نقف على عمق الشرخ بين الشعب ونخبه السياسية.. وتمخّضت هذه الجلسة عن قرار إحداث لجنة تقصّي حقائق حول أحداث شارع الحبيب بورقيبة.. بحيث تكون هذه اللجنة طوق نجاة لتبعات قرار وزاري مرتجل ولاتهامات موجهة لطرف سياسي بعينه مع مؤيدات تكفّل الإعلام بجمعها من منطلق مهني وفي إطار القيام بمهمته لكشف الحقيقة ورغم القرائن والأدلة والبراهين والشهادات الموثقة حتى من نواب المجلس التأسيسي فإننا نتمنى فعلا أن ترى هذه اللجنة المزمع إحداثها النور في القريب العاجل لأن الأمر لا يحتمل التأخير والاتهامات الموجهة لأكثر من طرف ستكون مثل بقعة الزيت التي ستأخذ في الاتساع شيئا فشيئا وبالتالي لا بدّ من وضع حدّ لهذه المزايدات وأن لا تكون لجنة تقصّي الحقائق هذه من قبيل «المورفين» السياسي لتهدئة الأوضاع وتضميد الجراح الملتهبة..
الشهداء.. ملف دون عنوان في عمل اللجان!
الشهداء والجرحى.. قضية الثورة المركزية دون منازع.. تعاقبت حكومات منذ الإطاحة بنظام المخلوع ووضعت القضية في المزاد الانتخابي وجلبت تعاطف الرأي العام وجسّدته أصوات انتخابية وضعت الكثير من الأحزاب على كراسي السلطة.. وبحثا عن صيغة لإنصاف الشهداء وردّ الاعتبار لجرحى الثورة تكوّنت لجنة توفيق بودربالة لتقصّي واستقصاء الانتهاكات الحاصلة أثناء الثورة وبعد أكثر من سنة عن ولادة هذه اللجنة ورغم التصريحات المثيرة للجدل لأعضائه فإن ما انكشف هو نصف الحقيقة على شاكلة هناك شهداء لكن دون ضبط لعددهم.. هناك جرحى لكن لا نعلم بدقة من هم وما هي معايير تصنيفهم.. هناك قنص لكن ليس هناك جهاز قناصة.. أشباه حقائق وأنصاف حلول زادت الأمر تعقيدا ولم تنصف من بذل الغالي والنفيس في سبيل عزة الوطن وكرامة المواطن.. وبعد المزاد الانتخابي خضع هذا الملف لمزاد مؤسساتي فرئاسة الجمهورية أحدثت لجنة لضبط من هم الجرحى ومن هم الشهداء والمجلس التأسيسي أحدث لجنة خاصة لنفس السبب ولغاية الإنصاف والحكومة أحدثت وزارة كاملة لها علاقة مباشرة بهذا الملف دون أن ننسى مجهودات المجتمع المدني في هذا السياق فالجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات كونت لجنة فيما مضى لمحاولة الكشف عن ضحايا ثورة الكرامة. غير أن كل هذه اللجان وكل هؤلاء المتدخلين بمواقعهم الرسمية الفاعلة والمؤثرة لم تستطع تحقيق الحدّ الأدنى المطلوب.. عدد الشهداء والجرحى وهوياتهم كاملة! ولئن كانت لجان تقصّي الحقائق يتمّ إنشاؤها عموما -وكما هو متعارف عليه في بعض البلدان التي مرّت بتجربة مماثلة للانتقال الديمقراطي- من أجل النظر في السياق العام الذي اقترفت فيه الانتهاكات لإبراز الحقيقة وكتابة التاريخ بطريقة صحيحة وإنصاف من ظلم أو تعرّض للانتهاك فإنه من المؤسف أن كل هذه اللجان التي أحدثت لم تتمكّن من إماطة اللثام عن حقائق تبدو بارزة للعيان ولا تقتضي إلا بعض الجهد والكثير من الجرأة لتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية دون السقوط في الولاءات أو التجاذبات، حتى لا تصيبنا طفرة اللجان كما سبق وحصل مع الطفرة الحزبية التي شتتت الآراء والأفكار دون تحقيق نتائج..
التقصّي حول الفساد والرشوة.. دون حقائق!
إذا كانت لجنة توفيق بودربالة لم تقدّم إلى اليوم النتائج النهاية لتقرير أعمالها بتعلة عدم الانتهاء من أعمال التحقيق والتقصّي فإن لجنة تقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة لرئيسها المرحوم الأستاذ عبد الفتاح عمر قد قدّمت تقريرها لرئيس الجمهورية وأحالت أكثر من 300 ملف للتحقيق القضائي بالإضافة إلى حفظ أكثر من 4700 ملف لعدم كفاية أدلة الفساد.. ورغم ما بذل من مجهود في هذا العمل غير أن هذه اللجنة بالذات لاحقتها الكثير من الاتهامات حول محاولتها التضليل على بعض الحقائق كما أن نفس هذه الاتهامات لاحقت رئيسها سابقا وهو ما دفعه ليخوض مشاحنات مع أكثر من طرف وأكثر من جهة.. وكما سبق وذكرنا -ورغم انتهاء هذه اللجنة من أعمالها- فإن هذه الأعمال لم نر لها صدى في الواقع وحتى الملفات التي أحالتها اللجنة على القضاء لا ندري ما مصيرها والى أين سينتهي بها المطاف. وبالنسبة للحكومة المؤقتة فإنه طالما رفعت شعارات «معادية» للفساد والرشوة، وهناك وزير مكلف بالحوكمة والفساد لدى رئيس الحكومة، لكن نتائج عمل اللجنة ونتائج عمل الوزير المكلف، بعد أكثر من ثلاثة أشهر تبدو محتشمة ولم يقع إلى الآن الكشف عن إحدى الملفات الكبرى لسقوط دولة الفساد.. وحتى رموز الفساد القابعون خلف الزنازين، يبدو أن عهد حريتهم قريب مع حكم بعدم سماع الدعوة في حقهم، لعدم كفاية الأدلة.. وهنا الطامة الكبرى! خاصّة وأن البعض من رجال الأعمال مازالت تحوم حولهم شبهة ضلوعهم في الفساد والرشوة بالإضافة إلى الكثير من المدراء والمسؤولين في الإدارات العمومية، ورغم ذلك فالحكومة لم تتخذ بشأنهم قرارات حاسمة، ولم تفعّل ما انتهت إليه أعمال لجنة تقصّي الحقائق، التي يبدو أن عملها مجرّد ذرّ رماد في العيون.. وما نؤكّده في الختام أن كل البلدان التي مرّت بتجربة الانتقال الديمقراطي، ساعدتها آلية إحداث لجان تقصّ لمعرفة الحقيقة وإيجاد الحلول، لكن على ما يبدو فاللجان التي اشتغلت لكشف ما خفي من نظام الاستبداد، لم تكن إلا حقنة تخدير لشعب مازالت روح الثورة لم تفارقه بعد. منية العرفاوي
عمر الصفراوي (مجموعة ال25)
كيف نضمن لمن اشتغل دون مقابل أن لا يسقط في الإغراءات؟
كانت تجربة مجموعة ال25 محاميا تجربة فريدة من نوعها وغير مسبوقة بحيث أخذت هذه المجموعة من المحامين على عاتقها تطوّعا ومن منطلق نضالي الكشف عن بؤر الفساد في المجتمع وإماطة اللثام على مواطن الخلل دون أن تكون لها مصلحة مباشرة في ذلك.. واليوم يأخذ أغلب المحامين المنتمين لهذه المجموعة على عاتقهم كشف ملابسات أحداث قتل الشهداء وإصابة الجرحى إبان الثورة والانتهاكات التي حصلت والبحث عن العقل المدبّر الذي كان يقف وراء هذه الأفعال الشنيعة ورغم أن إجراءات التقاضي أخذت الكثير من الوقت مما أفقد الأهالي صبرهم ودفعهم إلى أتون من الشك والحيرة فإن المحامين عاقدون العزم على إرجاع الحقوق إلى أصحابها كلفهم ذلك ما كلّفهم. وفي اتصال جمعنا بالأستاذ عمر الصفراوي رئيس مجموعة ال25 عبّر لنا أن المجموعة اشتغلت دون خلفيات أو حسابات ضيقة رغم موجة الانتقادات المغرضة المسلّطة عليها من كل جهة. وحول رأيه في أعمال لجان تقصّي الحقائق باعتبار أن يشتركوا معها في أعمال التقصّي والبحث عن الحقائق أكّد الأستاذ الصفراوي «بالنسبة للجنة توفيق بودربالة لم نر بعد أعمالها إذ لم تسلّم تقريرها النهائي بعد وبالتالي لا نستطيع الحكم عليها أما فيما يتعلّق بلجنة عبد الفتاح عمر فإننا نعتقد أنهم تسرّعوا في تقديم التقرير النهائي لعمل اللجنة وأنا أعتقد أنهم من جملة 5000 ملف أحالوا ما يقارب 320 ملفا على القضاء و4700 ملف وقع حفظها فإننا نتساءل هنا وبعيدا عن كل ما هو ذاتي وانطباعي هل يعقل أن تكون كل هذه الملفات التي حفظت تستحق فعلا الحفظ؟ لماذا التسرّع في الحفظ وترك الحبل على الغارب في إطلاق الإشاعات القائلة بأنه وقعت مقايضات في بعض الملفات؟.. كما أريد أن أشير إلى أن أيّ عمل بشري لا يخضع لآليات المراقبة الناجعة قابل للخطإ وللانحراف على مساره.. ولعل الأهم والأخطر والذي أثار موجة من الأقاويل والتأويلات هو لماذا اشتغل أعضاء الهيئة العليا للانتخابات بمقابل في حين أن أعضاء هذه الهيئة لم يتلقوا مقابلا لمجهوداتهم وذلك لحمايتهم أولا من الاغراءات ولضمان تفرّغهم الكامل لعملهم حتى يكون بالنجاعة المطلوبة ويكونوا مهتمين فعلا بتحقيق نتائج ايجابية. كما أن هناك حلقة مهمة في عملية المحاسبة في مجملها وهي حلقة التقاضي والقضاء فالعديد من الملفات لم تتخذ المسار القضائي المتوقّع لها ونحن عندما أحلنا ملفات على القضاء كان من أبرز مطالبنا ان تعامل قضائيا بكل استقلالية وحيادية.