من أهم الدراسات في المجال التربوي عربيا و تميزا في العمق و التحليل للقضايا التربوية هو كتاب الدكتور يزيد عيسى السورطي»السلطوية في التربية العربية», عن مجلة سلسلة عالم المعرفة الكويتية, ، في صفحاتها 125 - 140 الذي حلل فيه ظاهرة منتشرة في الحقل التربوي العربي و هي التسليع التربوي باعتبارها أحد مظاهر السلطوية التربوية العربية حسب تعبيره التي تعمل على تحويل التربية من رسالة سامية إلى سلعة تجارية. و هي عملية تؤدي إلى تشيئ التربية بعد تشيئ الإنسان نفسه، حيث إنه يحول التربية إلى بضاعة استهلاكية تباع و تشترى، و تخضع لقانون العرض و الطلب، و يستطيع البعض الحصول عليها بينما يعجز البعض الآخر عن ذلك، وتتعرض في بعض الحالات للغش كأي سلعة أخرى. و في هذه العملية يصبح الهدف الأسمى للتربية هو تحقيق الربح، و يتم تسويقها و الترويج لها بأساليب شتى مشروعة و صادقة في بعض الأوقات، وينتابها الكذب والتزوير في أوقات أخرى. فالتسليع التربوي، كما رأى ألكساندر، ما هو إلا إدخال التربية إلى الأسواق و عرض الدرجات العلمية كبضاعة للبيع، و تحويل المؤسسات التعليمية إلى شركات تجارية هدفها تحقيق المكاسب المالية يقوم عملها على التنافس ومبدأ البقاء للأصلح. و لذلك فإن التسليع التربوي كثيرا ما يوفر بيئة ملائمة لبروز التسلط، والمطامح الشخصية، والمكاسب الفردية، وطغيان المنافع الذاتية على المصالح الجماعية، والسعي إلى الثراء السريع بغض النظر عن مشروعية وقانونية الوسائل، و سيطرة الأنانية على كثير من العاملين في المجال التربوي، وغلبة النظرة الربحية على التعليم بحيث يسود نظام القيم السلعي للعلاقة بين أطراف العملية التربوية، و يحل محل العلاقة التربوية، فلا يقدم أي طرف خدمة إلى الطرف الآخر إلا مقابل ثمن نقدي. و تقتضي أهمية الاتجاه السلعي، و أثره الكبير و الخطير في التعليم دراسة مظاهر وجوده، وأسبابه، و نتائجه في التربية العربية. أما مظاهر التسليع التربوي في الوطن العربي، فتتجلى أولا في الدروس الخصوصية: يعتبر التدريس الخصوصي أحد أبرز مظاهر التسليع في التربية العربية، فهو مثال حي على النظر إلى التربية كسلعة يقدمها البائع(المعلم) إلى المشتري(الطالب). و أحيانا يكون هم المعلم هو ترويج بضاعته و تسويقها من أجل المال، ويضطر الطالب مقهورا إلى شراء بضاعة المعلم الخصوصي، على الرغم من تردي نوعيتها و تدني جودتها. ففي ظل هذه الدروس أصبح التعليم سلعة تباع وتشترى لمن يدفع الثمن، و في أي مكان ووقت، ويمكن اعتبارها تجارة في سوق سوداء للتعليم، و نبتا شيطانيا يثقل كاهل الأسر. ثانيا، المدارس و الجامعات الخاصة: أخذت بعض الحكومات العربية أخيرا تنسحب تدريجيا من مسؤولية تمويلها للتعليم بحجة أن التعليم أصبح عبئا غير محتمل يثقل كاهل الدولة و يستنزف مواردها المحدودة، و أن ما تدفعه على التعليم نوع من الدعم يجب إيقافه، مثله مثل غيره من أنواع الدعم الأخرى، وأن عليها أن تتراجع عن التزاماتها نحو التعليم، و أن تتركها و لو جزئيا للقطاع الخاص و المبادرات الأهلية والفردية. إن المبررات الرئيسية التي يطرحها أنصار هذا الاتجاه هي أن الإنفاق ضخم جدا، و أن مستوى التعليم الرسمي متواضع، و أن خصخصة التعليم توفر فرص التنافس، وتحقق الجودة و تحسين النوعية. ثالثا، المناهج الدراسية: إن بعض المناهج الدراسية العربية لا تواكب التطورات العلمية و التكنولوجية المتسارعة. فما زال هناك استخدام لمناهج كانت سائدة منذ نصف قرن تقريبا مع تعديلات طفيفة و تغييرات شكلية. ولهذه المشكلة أسباب كثيرة من أهمها سيطرة المبدأ السلعي على بعض النظم التربوية العربية، حيث تتعثر جهود تطوير المناهج الدراسية في بعض الأحيان بحجة عدم توافر القدرة المادية على تغطية تكاليفها. وتتحطم كثير من محاولات تحديث المناهج الدراسية بسبب «المنطق المالي» الذي يحكم هنا و يحول دون تحقيقها لأنها عملية ذات تكلفة مالية عالية، و لذلك يضحى بمكاسب عقلية وفكرية و مهارية مهمة جدا من أجل توفير بعض النقود. وهناك جانب آخر مرتبط بالمناهج الدراسية وله علاقة بالتسليع و هو تحول المنهج في كثير من المدارس والجامعات العربية إلى مجرد»مذكرات» يروجها»مؤلفوها» بهدف الربح السريع. وبالإضافة إلى ذلك، فإن معظم المناهج الدراسية العربية هي في الأصل مستوردة كسلعة من الغرب. وعلى الرغم مما بذل و يبذل من جهود من أجل تكييفها مع المجتمع فإنها ما زالت، بشكل عام، بتنظيمها وفلسفتها ومحتواها مغتربة ومنعزلة إلى حد ما عن واقع الحياة. رابعا الامتحانات: تعامل الامتحانات في كثير من الدول العربية، أحيانا، كسلع تخضع للعرض والطلب و المساومة. من خلال إطلاق صيحات الشكوى(صعوبة الأسئلة، قصر الوقت...). ولذلك فإنه في بعض الأحيان ترضخ بعض الوزارات للتربية والتعليم العربية للضغط الشعبي فتقدم بعض التنازلات في تقدير الدرجات، أو أوزانها بين مختلف الأسئلة استرضاء للشاكين، وهكذا يتحول الامتحان إلى سلعة عرضة للشكوى والمساومة بين أولياء الأمور والقائمين على التعليم. في النهاية، فإذا ما تحدثنا عن موضوع التسليع التربوي في بلادنا يبقى من المواضيع الحساسة والمحرمة نسبيا كما أنه موضوع وجب إحالته على مجلس الأمن للتصويت عليه بالمعنى المجازي للكلمة ليصدر فيه قرار حد و تنظيم فعلي وعملي لأن في طرحه و تحليله قد يفهم بأنه تحامل على المدرسين الذين يقال أن أغلبهم نزهاء و نظيفي اليد في هذا الموضوع بالتحديد و كذلك»حاسد الإطار التدريسي على تحسين دخلهم المادي» حسب المنطوق اليومي التربوي التونسي و أن الرأي العام يشوههم من خلال تطرقه لذلك، أما سلطة الإشراف فهي إلى حد الآن عاجزة عن أن تحد من هذه الظاهرة بهدف بقاء أوراق لعبة السيطرة والتحكم في مفاصل الشبكة التربوية من طرف أغلبية يرتهن إليها المجتمع ككل و كذلك أفسدت من خلالها المسار الطبيعي للعمل داخل المؤسسات التربوية التونسية فأصبحت العديد من العلاقات خاضعة لمنطق العرض والطلب والربح والخسارة والمحاباة والتخفي، ما دامت الاستفادة المادية لبعض الفاعلين التربويين حاصلة ومضمونة في غياب الإرادة والجدية اللازمة والرادع الأخلاقي والقانوني اللازمين. جعفر حسين