أقامت مؤخرا الفنانة التشكيلية الشابة سناء بن سالم معرضها "رحلة تحت البحار" وذلك بالنادي الثقافي الطاهر الحداد بمدينة تونس. وسناء بن سالم من مواليد 5 أكتوبر 1985 بتونس العاصمة وهي متخرجة من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وحاصلة على الإجازة من هناك. وقد سبق لها أن شاركت في عديد المعارض الجماعية وساهمت في بعض التظاهرات الفنية والثقافية... والمتأمل في معرضها "رحلة تحت البحار" يخرج بالكثير من الانطباعات لعل أهمها أن الفن اذا كان يعني معرفة للعالم فهذه المعرفة قائمة على العلاقة الجدليّة بين الإنسان وواقعه، ومن خلالها يرسم هذا الأخير مسار كينونته وعظمته في حرّية وسمو.. ومن هنا يمكن اعتبار الأثر الفنّي ليس شهادة على عظمة الإنسان فحسب بل أيضا نبوغا" ضدّ الفناء وتحديّ للموت وعشقا لا محدودا لاكتشاف اسرار الكون"، والأثر الفنّي يبعد عن كونه مجرّد إنجاز يدوي تقليدي، فهو إبداع ناتج عن توليفة المعرفة العقليّة واليدويّة والوجدانيّة.. وإذا اعتبرنا أنّ العمليّة الإبداعيّة على علاقة وثيقة بالانفعال. فهذا يعني أنّ الفن في مفهومه الشامل يقوم أساسا على"حالة التوتّر وليس الاستقرار".. فالفنّان التشكيلي في حالة بحث مستمرّ من خلال ما يمكن تسميته ب" المغامرة التشكيليّة "التي تبدأ بالوجل أمام بياض"اللوحة" وتنتهي عند اللّمسات اللاّأخيرة.. وعلى امتداد هذا المسار يتجلّى مخاض مغامرة البحث - المتعة والألم- عن الصيغ الجديدة للتعبير.. إنّ مفهوم الصورة وإنتاجها قائم على مجموعة من الرموز والدلالات التي تضعنا أمام إشكالية اللغة التشكيلية وهي لغة مرئيّة متطوّرة عبر آليات القراءة وتنوّعها. ولئن اعتبرنا أنّ بنية لغتنا خطّية ومتواصلة، بحيث تصلنا المعلومات شفويّا أو كتابيّا الواحدة تلو الأخرى على امتداد الخيط الزمني فإنّ إدراكنا للصورة شامل ومتزامن، فالمعلومات تنكشف أمامنا في آن واحد. ذلك أنّ القراءة ناتجة عن مسار العين التي تتنقّل بين الرموز لتؤّسس محور الرؤية.. هذا المسار شخصي وغير محدود في بدايته، وهو الشيء الذي يجعل من الصورة أحيانا أداة تواصل غير مكتملة. إذ أنّها تمتصّ قراءات وتأويلات مختلفة ناتجة عن طبيعتها المعقّدة. والقراءة تعني اختراق الحدود التقريريّة(الظاهر)، في محاولة للكشف عن الإيحاء(الباطن) لاستخلاص مختلف العلاقات بين العناصر التشكيليّة والأنساق التعبيريّة. وتتولّد عن ذلك عمليّة التفكيك لكلّ مركّبات الأثر الفنّي ونسيجه الداخلي بغية استجلاء ما تخفيه الرموز والدلالات. وفي الأثناء تتحدّد قناة التواصل بين الباث(الفنان) والمتلقّي(القارئ) عبر الخطاب.. ويمكن أن نقرأ لوحات الفنانة سناء بن سالم من هذه الزاوية وذلك بطريقتين الأولى قراءة أفقيّة وذلك لمعرفة الظاهر وما تمليه اللوحة التشكيليّة على العين وهي طريقة حدسيّة ومباشرة، أما الطريقة الثانية فهي قراءة عموديّة وهي قراءة متعدّدة كونها تخترق حدود السطحي لتكشف عن المعنى والعمق. وإذا أعتبرنا أن الأثر الفنّي هو نصّ صامت وسند أيقونيّا تحكمه مجموعة من الرموز والدلالات، وهي عناصر قابلة للوصف والإدراك فمن الضروري البحث عن منهج يساعد على قراءة وتحليل هذا العمل الفنّي لكونه إنتاجا إبداعيّا. لكن تظلّ القراءة التشكيليّة هي الأقرب للعمل الفنّي ذلك أنّه مقترن"بفكر فنانة تكتب بأدوات تشكيليّة" لأغراض إبداعيّة تشكيليّة قبل كلّ شيء.. والقراءة التشكيليّة هنا تمثّل نسيج التواصل بين الرّائي والفنان والذي يكشف عن مسار إنجاز العمل وآليّات تحقيقه تبرز هذه الخصائص جلية واضحة في لوحات هذه الفنانة من خلال التفاعل القائم بين المواد والأدوات المستعملة من ألوان زيتيّة، وباستيل وحبر وخامات مختلفة والتي تؤدّي بدورها إلى علاقات تشكيليّة متنوّعة ومميّزة ذلك أنّ إدراك وتحليل الخامات يُفضي إلى كشف توظيف خصوصيّة المادّة التي أعطت للعمل قوّته ونضارته. الوضوح، الضبابيّة، حيويّة الخطوط، ليونتها، صلابتها... البحر بأسراره وعوالمه الغريبة والعجيبة... بجماله وروعته.. بهيجانه وهدوئه.. بوضوحه وغموضه كل هذا وأكثر موجود في لوحات سناء من خلال سيطرة مجموعة لونيّة محدّدة وكيفيّة توزيعها وهنا يتم طرح عدّة تساؤلات، فتشخيص أعمال هذه الرسّامة تكون في موضع التساؤل لاستكشاف المعاني والمرجعيّات والدلالات الخفيّة التي تتمظهر عبر: التباين والتآلف واستعمال الفاتح والداكن والعاتم والشفّاف.. وكيفيّة توزيع الضوء ومصادر الإضاءة.. والتباين الناتج عن توزيعات ضوئيّة.. لقد تناولت سناء بن سالم هذا الموضوع ببالغ الأهمّية محاولة في ذلك إبراز العلاقات القائمة على البعد الثالث أي المنظور المؤسّس للعمق على مساحة مسطّحة، وقواعد تطبيقه.. فطريقة تمثيل هذا الفضاء لقي تطوّرا ومفهوما جديدا عبر الحركات الفنّية لهذه الفنانة الشابة... فالبحث عن ما وراء الظاهر(المعنى والبعيد)عند هذه الفنانة الشابة من خلال الكشف عن طرقها المعالجة التشكيليّة وتميّزها ومحاولة تجديدها بالمقارنة مع التيّارات التشكيليّة والمفاهيم السائدة من خلال فكّ الرموز والدلالات التاريخيّة والفنّية، ونوايا الفنّانة، والرسالة المراد تبليغها في معظم لوحاتها... إنّ التأويل وإعادة البناء بعد التحليل والتفكيك من ضرورات التحليل السليم لذلك ولئن وفرت لها كما ضئيلا من خامات التجريب إلا أنها وبسبيل التعيين قد أضرتها الى حد ما في ابتعادها عن شكل وعبق المناخ الإنساني التونسي وتبدلاته السريعة والمستمرة فارتكزت سناء بن سالم في حميمة الارتباط بالبحر وبقصصه المسجاة في أغلب لوحاتها من نهج خيالها أو في أغراضها الشكلية واللونية والتي تأرجحت متأثرة بهذا التناثر الظرفي لحقيقة مشروع فنانة تشكيلية واعية وملمة بحقيقة توجهها التشكيلي.. والإلمام بالتوجه وعوالم البحر الغريبة التي ترمي إليها الفنانة في الفن التشكيلي التونسي لهو من باب السباحة في زمن اللا تأمل وفي تجريدية تجعل من تداول أمر هذه التجارب الإنسانية المتناثرة فرحة بها وحسرة عليها. سناء بن سالم وفي منهجية الرصد والتّقييم بدت في معانقة مسطح لوحتها من بحر كبير وهذا البحر في حكاية التأسيس لمنهج الرصد هذا لا يرتكز في خصوصياته الرسمية التي سنباشر فيها المسح الإنساني الرشيد لتاريخ نفس المسطح الممزوج برغبة أن أكون انا سناء!! أي أن أكون سناء الفنانة التشكيلية التونسية، وبعدها،، وعلى ما يبدو من باب تكفل الله بغيبياته ترسو هذه السفينة أين ما ترسو في مرسى لوحة في تصيير حياة ما تحت البحار،، وهذا المحمل الإنساني المُجد في تجربة سناء ليس من باب التأسيس لصورة تشكيلية عادية ولكنها رحلة بحث متواصلة لا تنتهي مع أعماق البحر المليئة بالعجائب في شكل بحث ورصد مسترسل.