حوار: آسيا العتروس - قبل أسبوعين، صدر للباحثة الفرنسية الدكتورة كورا أندريو kora andrieu المختصة في الفلسفة السياسية بجامعة السوربون والخبيرة في شؤون العدالة الانتقالية والمكلفة بمسألة العدالة الانتقالية بمكتب الهيئة العليا لحقوق الانسان التابع للأمم المتحدةبتونس، كتاب جديد تحت عنوان: "العدالة الانتقالية من جنوب افريقيا الى رواندا"، وقد تضمن دراسة نقدية شملت تسع تجارب في مجال العدالة الانتقالية بينها يوغسلافيا السابقة وأوغندا ورواندا وألمانياالشرقيةوجنوب افريقيا وتيمور الشرقية. وتعتبر الباحثة أن العدالة الانتقالية باتت في القانون الدولي بمثابة الوصفة المطلوبة بالنسبة لكل الدول التي تخلصت حديثا من الدكتاتورية أو خرجت لتوها من حرب وتتطلع إلى حياة مدنية سلمية. وتشير الباحثة الى أن الدول المعنية اليوم بالعدالة الانتقالية تشمل بالإضافة الى جنوب افريقيا ورواندا، كلا من سريلانكا وأوغندا وليبيا وتونس ومصر وغينيا والمغرب، دون أن ننسى دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وغيرها. وتخلص الباحثة في حديث خصت به "الصباح" الى ان العدالة الانتقالية لا يمكن ان تتحقق دون أن يكون للضحايا دور فاعل في إرساء الديمقراطية... وفي ما يلي نص الحديث: * كيف يمكن تحديد مفهوم دقيق للعدالة الانتقالية انطلاقا من تسع تجارب مختلفة قمت بدراستها في كتابك الذي نشر قبل أسبوعين، وهل يمكن لمفهوم العدالة الانتقالية أن يتطابق بين تجربة وأخرى؟ يمكن تقديم مفهوم العدالة الانتقالية على أنها جملة الآليات التي يعتمدها المجتمع للنظر الى ماضيه ومواجهته وتحقيق العدالة ازاء الانتهاكات الحاصلة في مجال حقوق الانسان، وهي ايضا طريقة لتعزيز الديمقراطية الناشئة عبر مواجهة الماضي. وبعبارة أخرى فإن العدالة الانتقالية تسعى الى تطبيق أو اسقاط طبق مفهوم سيكولوجيا الفرد على المجتمعات، بمعنى أن الآلام والجروح والمعاناة التي طالما وقع نفيها وظلت قيد الصمت والكتمان، تعود الى السطح. هناك أيضا طابع وقائي للعدالة الانتقالية وهي طريقة للتقدم على طريق الديمقراطية إذا نجحنا في معرفة الماضي وتحديد الأخطاء التي تخللته. ومن هنا نقول قبل طي الصفحة، لا بد ان نعرف ما كتب على تلك الصفحة. ومن هنا أيضا تأتي خصوصية العدالة الانتقالية التي ترتكز على طلبات شرعية وطبيعية جدا وهي إنصاف الضحايا والاعتراف بتجاوزات الماضي، وأخرى براغماتية وهي تتمثل في تعزيز وفرض القانون، ولكن أيضا في منع تكرار ما حدث مستقبلا. والنقطتان متلاصقتان، بمعنى أن المفترض أن الاعتراف بالمسؤوليات في الجرائم السابقة من شأنه تعزيز ثقة المواطن ازاء مؤسساتهم الأمر الذي سيعزز بالتالي مسار الديمقراطية. بالنسبة للطرق المعتمدة لدى المجتمعات لمواجهة الماضي هي مختلفة، وهناك المحاكم الدولية كما في يوغسلافيا السابقة، وهناك أيضا الطرق التقليدية عبر المجالس القبلية كما في أوغندا ورواندا، وهناك برامج الاصلاح كما في المغرب، ولجان الحقيقة كما في جنوب افريقيا أو ألمانياالشرقية. والنقطة المشتركة بين جميع هذه التجارب هي تأمل الماضي ومواجهته وتطبيق مبدإ العدالة الذي يمكن أن يتخذ عدة أشكال ويمر عبر ثلاث طرق: عدالة قضائية أو عدالة للإصلاح واعادة بناء أو عدالة اجتماعية واقتصادية. وحسب القانون الدولي، فإن الطرق الثلاث يجب أن تكون متكاملة، كما وجبت الاشارة الى أن ما نلاحظه اليوم من وجود توجه بأن تكون العدالة الانتقالية مؤسساتية ومقننة مع ظهور عديد الصحف والمجلات ومراكز البحوث المتخصصة والخبراء المختصين في هذا المجال. وربما لهذا السبب أصبحنا نرى فيالق من المختصين يصلون بسرعة الى الميدان كلما ظهرت عملية انتقالية جديدة في أيّة منطقة من العالم، وغالبا ما يصلون محملين بقوالب جاهزة مستوحاة من تجارب سابقة متناسين أو متجاهلين أن العدالة الانتقالية يجب أن تتماشى مع المجتمع الذي ترتبط به. * ماهي أبرز التحديات، أو ربما العراقيل، التي يمكن أن تدفع الى فشل أو تعطل العدالة الانتقالية؟ تستمد العدالة الانتقالية مضمونها من رغبة المجتمع في إعادة بناء ثقة اجتماعية، مع إصلاح نظام قانوني مهترئ، وبناء نظام حكم ديمقراطي. القيمة الجوهرية للعدالة الانتقالية هي مفهوم العدالة، ليس فقط العدالة الجنائية، بل كافة أشكال العدالة. هذا المفهوم، مع التحول السياسي المتمثل في تغيير النظام السياسي أو التحول من مرحلة التعارض، يرتبط بهما مستقبل أكثر سلاما، وديمقراطية وثقة. التحديات كثيرة، ولكن الطموحات أكبر وغالبا ما نحمل العدالة الانتقالية كل المطالب ونطالبها بمعالجة الضحايا ومصالحة المجتمع وإعادة كتابة وتدوين الذاكرة الوطنية ومحاسبة كل المسؤولين. ومن الطبيعي أن يفرز هذا الامر الكثير من الخيبات والكثير من مشاعر الاحتقان. ولابد من الاعتراف بأن المصالحة انما تتحقق على مدى أجيال، كما أن جروح الضحايا لا يمكن أن تشفى بسرعة. اضافة الى ذلك فإن محاسبة كل مسؤول ستتطلب الكثير والكثير من الوقت قبل أن تتحقق. ومن الخطإ أن نجعل من العدالة الانتقالية وصفة عاجلة وآنية لفرض الديمقراطية في الحين. وبكل تواضع ما يمكن وما يجب على العدالة الانتقالية تفعيله أن تعزز الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وبين المواطنين انفسهم، وأن تساعد على الاعتراف والإقرار بآلام الضحايا وبكل الخروقات التي حصلت في الماضي. وفي الحالتين فإن للبعد الاجتماعي التقليدي رمزيته. ففي اطار لجان تقصي الحقائق، مثلا، يكون الضحايا مركز الاهتمام، نستمع لهم بانتباه، بل أحيانا نبكي معهم، والمحاكمات يمكن أن تكون على درجة من الأهمية للمجتمعات لتجاوز الاحقاد، وهذا ما خلص اليه الخبراء في محاكمة نورمبورغ في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. أقول انه لا بد من التواضع، واذا ما توصلنا الى ارساء الثقة والاعتراف بالماضي نكون قد حققنا الكثير. الديمقراطية والمصالحة يمكن أن تكونا من أهداف العدالة الانتقالية ولكنها أهداف نهائية تقودها عديد العوامل الاخرى وبشكل خاص التنمية الاقتصادية واصلاح المؤسسات وهي تقاس بالأجيال أكثر مما تقاس بالسنوات. وهذا البعد الزمني ايضا على درجة من الاهمية لانه يبدو أننا غالبا ما نفتقد الصبر ازاء مسار العدالة الانتقالية البطيء. وقد أكدت الثورات العربية ذلك وهناك انطباع بأن المجتمع الدولي يريد من مجتمعات الثورات العربية أن تحقق الديمقراطية الشاملة بين عشية وضحاها متجاهلين الوقت الذي تطلبته مثلا الثورة الفرنسية وحتى الامريكية زمنيا للوصول الى ما وصلت اليه. * ربما يكون هذا صحيحا، ولكن مجتمعات الشعوب العربية هي الاكثر تعجلا من المجتمع الدولي لهذه الديمقراطية المتعثرة حتى الان، فالمطلب شعبي ووطني قبل أي شيء آخر اليس كذلك؟ في ما يتعلق بالتحديات في اعتقادي أن الاهم يقترن بالتوظيف السياسي، فالمجتمعات التي تعيش مراحل الانتقال الديمقراطي غالبا مجتمعات هشة وهي فريسة لتشنجات عميقة وبالتالي فان المحاولات لاستغلال العدالة الانتقالية لتعزيز شرعية السلطة القائمة ستتسع وكذلك فان محاولات تغليب أو مناصرة فئة من الضحايا على حساب الفئات الاخرى قائمة أيضا وهذا الاخطر. فالعدالة الانتقالية لا يجب أن تكون انتقامية ولا انتقائية ومن هنا فان انتقادات كثيرة وجهت الى هيئة للانصاف والمصالحة في المغرب على أنها كانت وسيلة لتلميع صورة الملك دون تحقيق العدالة عمليا للضحايا على اعتبار أنه لم تتم أيّة محاكمة ولم يتم تحديد أيّة مسؤولية من المسؤوليات عما سبق من انتهاكات وفي روسيا أيضا فقد تم انشاء لجنة للحقائق ولكنها أعادت كتابة تاريخ الاحداث بطريقة مؤيدة للنظام القائم ودون اعتراف بانتهاكات وخروقات حقوق الانسان في الحقبة السوفياتية. ولتفادي كل هذه الامور لا بد للمجتمع المدني أن يظل يقظا وأن تكون حقوق الانسان محور العدالة الانتقالية. * انطلاقا من كل هذه المعطيات والتجارب المختلفة أين تتنزل العدالة الانتقالية في تونس وأنت خبيرة في هذا المجال؟ هذه مسألة صعبة للغاية لان التجارب مختلفة من بلد الى اخر وحسب طبيعة الانتقال وما اذا كان في أعقاب حرب أو في أعقاب مرحلة دكتاتورية وحسب نوع الانتهاكات أيضا سياسية مدنية اقتصادية أو اجتماعية. ولكن من جانب اخر يمكن أن نسأل كيف نعرف شروط نجاح أي مسار للعدالة الانتقالية؟ من هنا نقول انه يكاد يستحيل أن نقيس حجم أو مقاس تأثير العدالة الانتقالية وما اذا كانت ستتحقق على مدار5 أو 10 أو 15 سنة أو كذلك متى يمكن أن نقول أن هذا البلد انتهى من تحقيق مسيرة العدالة الانتقالية؟. ولكن لا بد من الاشارة أنه وفي أحيان كثيرة يمكن أن يدفع فتح ملفات الماضي الى احياء الكثير من الاحقاد ويخلق التشنجات ويؤجل بالتالي بلسمة الجروح فيكون متعارضا في الحين مع السلام والديمقراطية والاستقرار. وهنا افكر في اسبانيا مثلا التي انتظرت ثلاثين عاما قبل أن تواجه ماضيها وتستحضر دكتاتورية فرانكو والحرب الاهلية، والامثلة متعددة وغالبا ما تطرح تجربة جنوب افريقيا لأنها فرضت في حينها المصالحة الوطنية ومبدأ العفو العام المشروط بكشف الحقيقة وهو ما ساعد على تنظيم لقاءات بين الضحايا وجلاديهم. وهنا لا بد من القول أن حتى تجربة جنوب افريقيا القائمة على الحقيقة والمصالحة لم تنج من النقد وما يعاب على تجربة جنوب افريقيا مثلا أنه لم يفتح المجال للاستماع لكل الضحايا وأنه فرض على الكثير منهم العفو وأن التعويضات لم تكن كافية. واليوم فإن مبدأ العفو ليس مقبولا من طرف المجتمع الدولي دون شروط، واليوم فان التجربة المغربية تقدم على أنها مثال في دول الربيع العربي لان هذا المثال من شأنه أن يؤكد ان العدالة الانتقالية ليست مقتصرة على الغرب أو هي قسر على المسيحيين كما هو الحال بالنسبة لهيئة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا والتي ترأسها القس دزموند توتو. * ومن موقعك، كيف تبدو المقاربة بين كل من تونس ومصر وليبيا؟ مفهوم المصالحة فعلا يختلف من مجتمع الى اخر وهذا ما يجعل المقارنة أمرا صعبا مثلا فان هذا المفهوم قد يكون مختلفا اذا ما أثير في تونس ورواندا وسيظل كذلك وفي قناعتي أن التونسيين أقل حاجة للمصالحة بين أنفسهم من المصالحة مع مؤسساتهم، الروانديون كانوا في حاجة لمسار يدفع باتجاه المصالحة الجماعية وحتى الفردية وفي التجربة الليبية فان هذا البعد المجتمعي على درجة من الاهمية أيضا بين بنغازي وطرابلس مثلا أو كذلك بين بعض القبائل وهذا البعد سيفرض نفسه بوضوح في سوريا أيضا. ما يقارب بين التجربة في تونس ومصر وليبيا أنها ترتكز حول الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فهذه الثورات قامت تحت شعار الكرامة في بعديه الاجتماعي والاقتصادي، واذا لم تقم العدالة الانتقالية على هذا المفهوم ستكون نتيجتها الفشل. اذا لا بد في نفس الوقت الاعتراف بضحايا انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية وكذلك الجرائم الاقتصادية. وتونس قطعت خطوة في هذا الاتجاه عندما أطلقت هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية وبعث لجنة للتحقيق في الفساد، وما تفردت به تونس أنها أسست وزارة للعدالة الانتقالية وبرهنت حتى الآن عن ارادة سياسية حقيقية لمواجهة الماضي. ربما يخشى المجتمع المدني من أبعاده وفصله عن المسار ولكن في اعتقادي أن هذه الوزارة يمكن أن تكون مصدر قوة ووسيلة لتكريس الواقع السياسي وتطلعات المجتمع المدني والضحايا. ومن هذا المنطلق فإن التجربة سواء في مصر أو ليبيا في مجال العدالة الانتقالية لم تتقدم إلى هذا المستوى.