- منذ عشرينات القرن الماضي واليسار يؤثث المشهد السياسي التونسي..ورغم أن الأفكار اليسارية تسلّلت الى المجتمع التونسي عبر النخب الفرنسية الاستعمارية، متأثرة بنجاح الثورة البولشفية التي غزت أفكارها دول العالم واستنهضت أحلام المسحوقين والكادحين في التحرر والانعتاق من هيمنة المستعمر أيا كان لونه..فانها سرعان ما تجانست وانصهرت في المجتمع حتى ولو اعتبرت تلك الأفكار اليسارية في بداية القرن الماضي "دخيلة" و"غريبة" على البيئة التونسية المحافظة بهويتها العربية والاسلامية.. وقد خاض اليساريون صراعات ونضالات مريرة ابان الحقبة الاستعمارية وكذلك بعد الاستقلال وهذا ما توثقه المراجع التاريخية والمؤرخون..ولعلّ أهم تلك الصراعات كانت مع نهاية الستينات وبداية السبعينات حيث واجه الطلبة اليساريون خاصّة الأفكار البورقيبية السلطوية والتي لا تؤمن بالرأي المخالف وذلك في اطار حركة" برسبكتيف" أو منظمة العامل التونسي ..فالشباب الجامعي المتأثر بالأفكار "الحمراء" والمنادي بالعدالة الاجتماعية والمسكون بثورة" تشي غيفارا"تحدّى ارادة بورقيبة وتمرّد على أفكاره الأبوية ولم يثنه قمع الزعيم في مواصلة كفاحه لنشر ما يؤمن به..ومع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات شهدت الجامعة صراعا جديدا بين طلبة اليسار والطلبة الاسلاميين وتؤكّد الكثير من المصادر أن الصراع كان شرسا،ولم ينته الاّ بسعي السلطة المحموم الى اجتثاث التيار الاسلامي وقمعه والزج بمناضليه في السجون..مع بن علي عاش اليسار الشتات والركود لتنتهي سنوات الضياع هذه باندلاع الثورة التونسية..لكن محن اليسار لم تنته وهو اليوم يواجه أخطر وأشرس هذه المحن وهي حملات التكفير التي تشن ضدّه اليوم وأودت بأحد رموزه شكري بلعيد في عملية اغتيال شنيعة اليسار التونسي ضحية.. «مزاجية» الرأي العام !؟ بين جنازة شكري بلعيد التي هبّت آلاف الجماهير لتشييع الجثمان و الحصيلة "الهزيلة" لليسار التونسي في انتخابات التأسيسي بون شاسع يطرح حقيقة العلاقة بين الشعب التونسي ونخبه اليسارية..صحيح أن الشعب الذي نزل للشوارع غاضبا على مقتل بلعيد كان يحمل رسالة ترفض الإرهاب والعنف فإن جميع الشعارات التي رفعت في هذه المسيرات الضخمة التي سادت كل تراب الجمهورية هي في الحقيقة شعارات "يسارية" بامتياز تتبناها الجبهة الشعبية التي تضمّ حوالي 12 حزبا يساريا..نلاحظ اليوم أن ما يشبه "الانفصام" يشوب علاقة اليسار بنخبه وأفكاره التي باتت "تكفّر" بالشعب التونسي الذي نلمس تعاطفه مع هذا التيار ولكن مع تردّد في حسم موقفه منه سياسيا.. وعلاقة اليسار بالمجتمع التونسي انبنت على معطى تاريخي هام يعود بنا إلى عشرينات القرن الماضي عندما ظهر الحزب الشيوعي الفرنسي مجسّدا في مجموعة من المعمرين الشيوعيين الذين تبنوا مطالب عمالية واجتماعية وساهموا بطريقة أو أخرى في مراكمة الزخم الثوري لدى النخب التونسية آنذاك التي تبنت مطالب الحركة الوطنية ،ومرّ اليسار كفكر شيوعي متأثرا بأفكار البلشفية بمحطات نضالية فارقة ومهمة ومنها أساسا "تونسة" الايديولوجية و الحزب لاحقا.. نضال مرير ولكن.. وقد خاض اليسار بمختلف مرجعياته الايديولوجية سواء كانت الماركسية اللينينية والستالينية والماوية والغيفارية مرجعية ايديولوجية نضالات وصراعات مريرة مع السلطة الحاكمة رغم "سنوات الضياع " زمن بن علي حيث تشتّت اليسار وفقد تأثيره السياسي ما عدا حزب العمال الذي أنهكته السرية والملاحقة البوليسية وبعض نشطاء الفكر اليساري من حقوقيين ونقابيين الذين حاولوا بشتى الطرق التملّص من القبضة الحديدية للنظام.. وطوال تاريخه حاول التيار اليساري المحافظة على موقعه حتى ولو "باحتشام" في المشهد السياسي ومن رحم تلك التجربة نشأت عدة تيارات وأحزاب يسارية وهي ليس لها موقف متجانس لا من المجتمع ولا السلطة ..ليبرز مع بداية نظام بن علي اتجاه "براغماتي" يتعامل بواقعية مع المعطيات السياسية وان كان ذلك في ظلّ حكم وهيمنة الغريم السياسي وهذا الاتجاه كرّسه ومارسه بعض أفراد حركة "أفاق" مثل محمّد الشرفي ذي المرجعية الماركسية "الراديكالية" الذي قبل أن يعمل وزيرا في ظل حكومة يقودها بن علي ويهيمن عليها حزب واحد و كان المهم أن يجد سبيلا لتنفيذ أفكاره... وفي مقابل ذلك هناك تيارات يسارية أخرى راديكالية اختارت العمل السري طيلة حكم بن علي.. كحزب العمال الشيوعي.. وتبقى العلاقة بين اليسار والمجتمع التونسي علاقة في غالب الأحيان نخبوية وقد تصل الى نوع من الفوقية لأن الأحزاب اليسارية التي هي من المفترض أن تكون ممثلة للطبقة العاملة والشرائح الاجتماعية الأكثر تهميشا واضطهادا تجد نفسها تعيش نوعا من الانفصام الثقافي وتجد هوة عميقة بينها وبين مختلف تلك الشرائح الاجتماعية اعتبارا لكون الخطاب الفكري والسياسي الذي تروّجه غالبية التيارات اليسارية يبقى خطابا مبهما وغامضا بالنسبة للشرائح الاجتماعية الدنيا.. "قميص عثمان"... ورغم محاولات اليسار بعد الثورة التي شارك فيها بفاعلية لإنضاج خطابه وتقريبه من المواطن البسيط الذي يتبنى أفكاره من وجهة نظر نخبوية ،والتخلّي على تصلّب وتكلّس الرؤى الايديولوجية وتطويعها لمنطق الواقع والتخلّي على الأفكار التي "هجرتها" البشرية منذ القرن الماضي.. الاّ أن المسألة الدينية وضرورة أن يحدّد اليسار نهائيا موقفه من المشترك الديني كما حسم أمره من الهوية العربية والتي دافع عن قضياها وتبناها وخاصّة القضية الفلسطينية بتأثير من اليسار العربي الذي انتشر في الأقطار العربية مع خمسينات القرن الماضي ببعديه القومي الناصري والقومي البعثي ..فالمسألة الدينية بقيت ملتبسة بين الشعب واليسار وجعلت خصومه يستغلونها "كقميص عثمان" عند مهاجمته وبشراسة إذ أن التيارات اليسارية في أغلبها لم تستطع اعادة التفكير وانتاج خطابها الديني وتجديد الموقف من الاسلام ليس بوصفه الوجه الأخر للهوية العربية وللغة العربية وانما بوصفه دين الغالبية العظمى من الشعب وهو الحاضن لمجموع القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية السائدة و أنه طالما لم تستطع تيارات اليسار اعادة النظر في موقفها من الاسلام بوصفه المرجعية المتجدّدة والمتنقلة من جيل الى جيل لدى التونسيين يصبح من العسير بالنسبة لهذه التيارات أن تبني لنفسها عمقا اجتماعيا يمكّنها من دخول عالم السياسة وممارسة الحكم من بوابة الشرعية الشعبية.