لا يمكن أن تكون الصدفة وحدها وراء تزامن تصريحات وزير الداخلية الفرنسي مانويل فال الذي أعرب عن مخاوفه من عودة المئات من الجهاديين الفرنسيين المتطوعين في سوريا الى فرنسا وحديث وزير الداخلية في بلادنا عن عودة "مجاهدات النكاح" اللائي شاركن بدورهن في الحرب الدائرة في سوريا الى تونس . فالواضح أن تداعيات الحرب في سوريا تجاوزت منذ زمن الحدود السورية وهي اليوم تنذر بالأخطر، والعار الذي سيرتبط بالمشهد فيها سيلحق الجميع دون استثناء ولن يميز بين طبقة وأخرى ولا بين سياسي وآخر، والثمن سيدفعه الجميع أيضا ولفترة طويلة تونس بالأمس كانت حاضرة وبقوة على أعمدة أبرز الصحف العالمية، وهذا الحضور لم يكن بسبب انجاز علمي باهر أو اكتشاف تاريخي أو رقم قياسي رياضي، ولا حتى اقتراب الازمة السياسية من نهايتها وانتصار لغة الحوار الحضاري والمصلحة الوطنية بين الفرقاء المتناحرين على ما تبقي من الغنيمة... وإنما لعودة تونسيات حوامل من جهاد النكاح في سوريا وهو النبأ الذي وقع تداوله بمختلف اللغات بعد تصريحات وزير الداخلية الذي أكد بلا مواربة صحة ما كان يروج منذ فترة ليست بالقصيرة في هذا الشأن والحقيقة أنها من المرات القليلة التي كنا نتمنى لو أنه تم تكذيب الخبر والتستر وراء سياسة النعامة وتحميل المناوئين مسؤولية ترويج ادعاءات لا أساس لها من الصحة والانجرار وراء حسابات شخصية ومحاولات مكشوفة لإرباك جهود الحكومة، وربما كنا أكثر استعدادا لتصديق ذلك هذه المرة ولكن كلمات الوزير كانت على درجة كبيرة من الوضوح ... إنه من المحبط، بل ومن المؤلم، أن نجد أنفسنا، بعد أكثر من سنتين على اسقاط نظام استبدادي طالما وصف بالفساد، في مواجهة مثل هذه الحقائق المؤلمة والخطيرة.. فقد كنا نعتقد حتى وقت قريب أن المجال سيكون مفتوحا في ظل مناخ الحريات الجديد، للتنافس في ما يدفع بالبلاد الى الأفضل ويجعل تونس بشعبها -نساء ورجالا وشبابا- مثالا صادقا، قولا لا فعلا، بين مختلف دول الربيع العربي، في النقاء والتميز، قبل أن يصدمنا الواقع وتعجزنا الحقيقة عن تفسير ما يحدث سيقول الكثيرون ان ما نعيش على وقعه من اهتزازات متكررة جزء من الثمن المطلوب وضريبة لا مفر منها قبل كسب رهانات وتحديات المرحلة الانتقالية، ولكن أصحاب هذا الموقف يعرفون سلفا انهم بذلك يعالجون الخطأ بالخطإ ويعمدون الى سياسة النعامة هربا من المساءلة، لأنه وبكل بساطة عندما تسقط مكانة العقل والفكر وتحل محلها لغة الشعوذة والغيبيات ونعجز عن تقديم إجابة شافية عن سبب بلوغ الامر بعدد من فتيات تونس الى هذا الحال فإننا فعلا نواجه مصيبة كبرى والواقع أن كل التبريرات بما في ذلك انهيار مؤسسات الدولة وما سجل من استباحة للبلاد من شيوخ الفتاوى التحريضية وتجار الدين ومن امتداد لثقافة العنف والتطرف لا يمكن بأي حال أن تبرر هذا السقوط الى الهاوية لفئة من حفيدات عليسة والكاهنة وعزيزة عثمانة وأروى القيروانية وزبيدة بشير وغيرهن... وأي سقوط في استعراض تلك المبررات انما يعني في الواقع سقوط الاخلاق وقد نشأنا على هذه الأرض على أن الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا... بمعنى أن في ذلك إشارة الى أن أمتنا باتت مهددة في وجودها وفي هويتها وثقافتها وأخلاقها... وبالعودة الى ما جاء على لسان وزير الداخلية فإنه إذا كان السيد لطفي بن جدو قد أراد من خلال تأكيده تحت قبة المجلس التأسيسي لما سبق لمختلف وسائل الاعلام التنبيه إليه بشأن ظاهرة جهاد النكاح، إراحة ضميره والتنصل من المسؤولية فإنه لا يمكن أن يجد الى ذلك سبيلا بل ان الأخطر في اعترافات الوزير وإقراره بعودة تونسيات حوامل من رحلة "جهاد النكاح" -المقدس فقط في عقولهن الموبوءة- كشفه وبكل وضوح أن هذا يحدث "ونحن صامتون مكتوفي الايدي".. والسؤال الذي يتعين على السيد الوزير أن يرد عليه: لماذا تصمت، ولماذا تقبل أن تكون مكتوف اليدين؟ وماذا لو أن الامر تعلق بإحدى معارفك؟ فاذا كان السيد الوزير لا يعلم بهذا الأمر فتلك مصيبة، أما اذا كان هو ووزارته يعلمان بهذا التيار الخطير الذي يجرف فئة من التونسيات، فالمصيبة مصيبتان، اذ لم يسبق للتونسيين تسجيل هذا النوع من الجهاد الكافر في ثقافتهم الاجتماعية حتى في أحلك الفترات وأشدها سقوطا في الجهل والتخلف حيث كان شعار التونسيين المتوارث أن الحرة تجوع ولكنها لا تأكل من ثدييها، فكيف عندما يتعلق الامر بالدفاع عن المقدس ... ليس مهما في شيء أن يتعلق الأمر بفتاة تونسية واحدة أو بأكثر، فالاهم ما وراء تلك الظاهرة لا سيما وأن أصواتا كثيرة ارتفعت محذرة من هذا الداء، ولا يزال الكثيرون يذكرون تصريحات الشيخ عثمان بطيخ عندما كشف قبل أشهر أن 16 فتاة "تجندن" لجهاد النكاح فتمت إقالته. تجارالدين المتلاعبين بعقول بعض الشباب التائه في صراعات الحياة وتجاذبات المتنافسين في الحقل السياسي وحروبهم الكلامية التكفيرية التي تجاوزت كل حد وجدوا ضالتهم في استهداف ضعاف النفوس القابلين للتطويع والاستيلاب فأجمعت عقليتهم التدميرية التي لا تعرف معنى للبناء والاستثمار الإيجابي فدمرت حاضرهم وسرقت مستقبلهم ودفعت بالآلاف من الشبان الى الموت في سوريا طمعا في الفوز بحورية من حواري الجنة أخيرا وليس آخرا، فللموضوع بقية حتما، ما رأي السيدة وزيرة المرأة؟ وهل أعدت، بعد عودتها من زيارة ميدان رابعة وانتقاداتها العلنية للجيش المصري، جوابا مقنعا لو أن احدى مجاهدات النكاح العائدات طلبت مساعدتها أو طالبت بمساءلتها ومحاسبتها عن سبب تقصيرها في حمايتها وحماية غيرها من هذا المصير؟ الأمر الأكيد أن العار سيلاحق الجميع، من قرطاج إلى باردو ...