بعد حادثة اختطاف رئيس الوزراء الليبي علي زيدان في مقر إقامته قبل أسابيع، لا يبدو أن الجار الليبي بعد مضي أكثر من سنتين على سقوط نظام القذافي، سيكون قادرا على طي صفحة الانفلاتات الأمنية والحد من مظاهر التمرد والاستخفاف بالقائمين على السلطة الجديدة في هذا البلد بكل ما يمكن أن يعنيه ذلك من مظاهر ممارسات المافيا والعصابات المارقة التي تستغل هشاشة مؤسسات الدولة وانحسار الإرادة لتفعيل القانون والانتصار للعدالة الاجتماعية. ولعل في اقدام جماعة من المسلحين على اختطاف سيارة محملة بخمسين مليون دينار كانت في طريقها من المصرف المركزي بطرابلس إلى سرت لاقامة مشروع سكني اجتماعي ما يمكن أن يعكس الواقع الليبي الذي بات رهينة للجماعات المسلحة والعصابات المنتشرة في كل مكان والتي تجاوز خطرها منذ وقت ليس بالقريب الحدود الليبية الى دول الجوار. ولعل في تواتر الاحداث الارهابية التي سجلتها تونس في الأيام القليلة الماضية والتي استنزفت دماء عدد لا يستهان به من حماة الوطن، من قبلاط الى منزل بورقيبة، ما يؤكد مدى تنظيم وتشابك وترابط تلك الجماعات ومن يقف وراءها بالتمويل المادي والبشري والدعم والمعلومات. والحقيقة أن في اعلان علي زيدان رئيس الحكومة الليبي أول أمس استعداد حكومته لشراء أسلحة إحدى الحركات المسلحة التي يقودها ابراهيم الجضران (الذي يتولى مع عصابته المسلحة عرقلة تصدير النفط من المواني الليبية) ما يمكن اعتباره «حل الضعفاء». بل وأكثر من ذلك فإن علي زيدان بتوخيه مثل هذا الخيار وتأكيده الاستعداد تقديم تلك الأموال من خزينة الدولة إنما يداوي الخطأ بخطإ آخر أفدح وأشد، إذ هو بالإضافة الى منحه ما لا يملك لمن لا يستحق، باعتبار أن تلك الأموال ملك للشعب الليبي وهو ليس أكثر من مؤتمن عليها، فإنه - وهذا الاخطر - يفتح باب الابتزاز والمساومة على مصراعيه ويضع البلاد في موضع البقرة الحلوب التي ستمتد اليها كل الايدي اللاهثة وراء نصيب من الغنيمة على افتكاك نصيب منها مهما كانت الطريقة. ولو أن زيدان مضى قدما في هذا الحل درءا لتهديدات الجضران وغيره ممن يدعون باطلا أنهم أنصار الضعفاء على طريقة «روبان كروزو» فإنه لن يكون باستطاعته بعد ذلك كبح جماح هذه الجماعات ووقف عملية النهب التي ستكتسب صبغة شرعية بسقوط مفهوم الدولة. واذا كانت خسائر ليبيا بلغت بسبب سيطرة المسلحين على المواني ستة مليار دولار حتى الآن فإنها ستتضاعف مرارا وربما لن يبقى لليبيا بعد ذلك دخل من ثروتها النفطية وستزيد أطماع الجضران وجماعته، وهو الذي يطالب بجعل منطقة برقة النفطية منطقة حكم ذاتي، الى ما هو أبعد من ذلك وربما تكون تلك بداية التقسيم الحقيقي أسوة بما حدث في السودان قبل سنتين... ليبيا معقل الجماعات الإرهابية ... والواقع أن المخاوف من تحول ليبيا إلى ملاذ للمتشددين الذين يتنقلون عبر حدود يسهل اختراقها باتت حقيقة قائمة ولا شك أن في لجوء عناصر «القاعدة» العائدة من أفغانستانوباكستانوالعراق وحتى الشيشان للتحصن بهذا البلد ما يؤكد أن الخطر ليس بصدد الانحسار، وربما تؤكد عملية اعتقال أبو أنس الليبي قبل نحو ثلاثة أسابيع أن السيناريو الطالباني الافغاني بات قابلا للتكرار في ظل الوضع الإقليمي الغامض وتنامي هيمنة الجماعات المسلحة... من «داعش» وهي اختصار ل»الدولة الإسلامية في العراق والشام»، إلى «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، الى جماعة «التوحيد والجهاد»، ف»فتح الإسلام» و»عسكر طيبة، الى «أنصارالشريعة» في اليمن وتونس وليبيا و»جبهة النصرة» في سورياوالعراق... فإن قائمة الجماعات المتفرعة عن تنظيم «القاعدة» ما انفكت تتفرخ وتمتد كالسرطان الخبيث، ويبدو أن التردد وعدم الرغبة في مواجهتها واستئصال خطرها في مواقع انتشارها قبل استفحالها قد جعل هذا الخطر يتضاعف وطرق تطويقه تتعقد مع تمكن تلك الجماعات من جمع ترسانة من الأسلحة، قد لا يكون بالإمكان رصدها بشكل محدد، وتحصين مواقعها وتحديد بالتالي أهداف عملياتها والاقتراب أكثر فأكثر من المدن والمضي قدما في صناعة زرع الخوف والرعب في النفوس ودفع المواطنين الى التشكك في كل ما يحيط بهم الى درجة الهوس، وإلى الحذر الى درجة الانعزال والغرق في أسوإ ما يمكن للمرء الوقوع فيه وهو البحث عما يمكن من تجنب مخاطر الإرهابيين حتى وان كان ذلك دافعا لتبني خيارات مناقضة والسقوط بالتالي في التحصن بثقافة تدمير الذات ورفض الانفتاح وكل ما يمكن أن يتناقض مع الحياة الطبيعية والعيش تحت الشمس... الجضران الذي تخلى بدوره عن البدلة العسكرية كما فعل عبد الحكيم بلحاج من قبله، كان يقود سرية حمزة التي قاتلت على الساحل من أجدابيا الى منطقة سرت مسقط رأس القذافي. واليوم وبالاستناد إلى شهادات ليبية فإن رجاله يسيطرون على ميناءي السدر ورأس لانوف لتصدير النفط. وليس سرا أن هذا الرجل يجد له في برقة أنصارا، يدفعهم الى تأييده الوضع المحبط في البلاد وتراجع الاحلام ببناء واقع جديد في ليبيا الغنية بثرواتها والتي لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة ملايين نسمة بعد رحيل القذافي. والأخطر أن الجضران وجماعته ليسوا سوى مجموعة واحدة من عشرات الجماعات المسلحة في ليبيا، وهو لا يخفي تخطيطه لطرح النفط الخام للبيع للأسواق العالمية نيابة عن مجلس جديد للحكم الذاتي. ولا شك أنه سيجد الكثير من المقبلين على عقد الصفقات معه في ظل المناخ الحالي من غياب القانون واستشراء لغة استعراض العضلات في ليبيا. الإرهاب بلغة الأرقام والواقع.. الوضع الأمني السائد في ليبيا ومنه الى شمال افريقيا من شأنه أن يعيد الى السطح نتائج التقرير الأمريكي الصادر عن معهد دراسة الإرهاب ومكافحة النشاطات الإرهابية والذي أشار الى ارتفاع عدد الهجمات الإرهابية العام الماضي بالتزامن مع رصد سبع تنظيمات أساسية بينها ستة مرتبطة مباشرة بتنظيم «القاعدة»، لها صلة بالهجمات المسجلة. وتشير لغة الاقام الى أن 2012 شهد أكثر من 8500 عملية ارهابية أدت الى مقتل 15500 شخصا تركزت أساسا في افريقيا وآسيا ودول الشرق الأوسط ولا سيما العراقوسوريا. وبذلك يكون عدد الهجمات الإرهابية ارتفع بواقع 69 بالمائة مقارنة بالعام الذي سبق في حين ارتفع عدد الضحايا الى 89 بالمائة في 2011. ولعل الأهم في التقرير الأمريكي أنه توقع أن يكون عام 2013 مع اقتراب نهايته أكثر دموية من العام الماضي، إذ أن الأشهر الستة الأولى منه بمفردها شهدت أكثر من 5100 هجوم, وأضاف القائمون عليه أن الباحثين يسجلون زيادات مضطردة في أعداد الهجمات طوال العقد المنصرم. ومن العوامل التي ذكر التقرير أنها ساعدت على زيادة معدلات الهجمات خلال 2012، تصاعد وتيرة الصراع المذهبي بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط، إلى جانب تزايد استخدام «تكتيكات إرهابية» في العمليات القتالية والعسكرية بما يلغي الحدود بين «خطوط الجبهات». وحسب نفس التقرير، فقد شهدت ثلاث دول هي باكستانوالعراقوأفغانستان، ما نسبته 55 % من إجمالي الهجمات الإرهابية حول العالم عام 2012، كما شهدت وقوع 62 % من الخسائر البشرية على أراضيها. وإذا كان مصرع زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن ومن بعده الزرقاوي والبغدادي وغيرهم قد أدى إلى ضرب القيادة المركزية للتنظيم، إلا أنه لم يؤثر على الشبكات المرتبطة بها، والتي تزايد نشاطها بشكل ملحوظ. ويبقى تنظيم «القاعدة» الأشد فتكا لعام 2012، وخلفه جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، ثم «تنظيم القاعدة في العراق» والحزب الشيوعي الماوي في الهند وحركة الشباب الصومالية و»تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية»، والفرع الباكستاني لحركة «طالبان».. على أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن بقية التنظيمات أقل خطرا.