ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في رحاب مركز جامعة الدول العربية.."الصباح نيوز" تنشر نص محاضرة محمد حسين فنطر حول دساتير تونس عبر التاريخ من قرطاج الى دستور 2014
نشر في الصباح نيوز يوم 09 - 02 - 2019

من لا يقرأ التاريخ لا يمكنه استقراء الحاضر ولا المستقبل.. ومن هذا المنطلق فان المحاضرة التي قدمها الاستاذ محمد حسين فنطر في رحاب مركز جامعة الدول العربية أول أمس الخميس حول دساتير تونس عبر التاريخ منذ قرطاج الى دستور 2014 يمكن اعتبارها وثيقة تاريخية وسياسية لمسار ظهور القوانين في بلادنا. بل ان المحاضرة التي تأتي بالتزامن مع الذكرى الخامسة لصدور دستور 2014 أو دستور الجمهورية الثانية، يمكن أن تكون نصا فريدا يساعد في فهم العقلية الحاكمة التي تواترت على السلطة في تونس على مدى العصور.. والاكيد أن هذا التقديم الذي قدمه المؤرخ محمد حسين فنطر وأعده بكثير من الدقة والاتقان لا يهم فئة المؤرخين والجامعيين فحسب، بل وكل المهتمين بالشأن السياسي من العامة والخاصة.
وفي ما يلي نص الكامل للمحاضرة:
متى ظهرت أولى القوانين التي أفرزها المجتمع البشري؟ سؤال تعسر الإجابة عليه بالتحديد. فالمرجح أن أولى القوانين تعود إلى ميلاد أولى المجتمعات وهو ما يرقي إلى العصور الحجرية. فالإنسان حيوان اجتماعي ولا يوجد مجتمع بدون قواعد وتقاليد، شفوية كانت أو مسطورة، تيسّر التعايش بين الناس. وما انفك الشعور بالحاجة إلى القانون يتطوّر لا سيما بعد نهاية العصر الحجري الحديث وبداية التاريخ.
ولئن كان القانون من وضع الإنسان، فأقدم القوانين المسطورة الموّثقة المعروفة، لا تتجاوز حدود الألف الثالث قبل ميلاد المسيح وهي ممّا أنجبته المجتمعات السومرية في جنوب العراق تلك الربوع التي تتمازج فيها مياه دجلة بمياه الفرات. ففي المدن السومرية، تمَ العثور على عدد كبير من النصوص القانونيّة على أن أشهرها وأكثرها انتشارا في الكتب والدراسات يبقى، وبدون منازع، قانون حمورابي الذي يعود إلى الألف الثاني قبل ميلاد المسيح. دونت شريعة حمورابي بالخطّ المسماري البابلي القديم ولغته أكّادية سامية. سطر النص على مسلة من حجر الديوريت الأسود ومضمونه ينيف عن 282 مادَة قانونية محفوفة بمقدمة وخاتمة وقد عثر عليها في عيلام جنوب غربي إيران سنة 1901 –1902.وإذ تبيّن هذه النصوص القانونية كيف تمَ التعامل مع مجتمع بشري في مكان ما وفي زمن محدّد، فهي مواليد ويبقى سؤال مطروحا في خصوص والدها. فالقانون يولد ويلد، حتى كأنّه نهر ينحدر من نبع، والنبع هو ما قد يسميه المختصون دستورا إذا توفرت فيه المواصفات المتّفق عليها.
فبالنسبة للقوانين السومرية ولقانون حمورابي، لا شكّ أنها من وضع نخبة من رجال العلم والمعرفة استفاد منها السلطان وقد يكون طلبها منهم. وليس من الغريب أن يكون من بين أعضاء تلك النخبة رجال من الكهنوت وساطرونScribesوغيرهم من أهل الخبرة. فالملك يدير شؤون المملكة ويوفر لرعيته حلولا لقضاياها اليومية باعتباره خليفة الآلهة في الأرض. وفي اعتقادهم، ينزل الإله من السماء إلى الأرض ليرى كيف يتصرّف الخليفة مع الخليقة. وأيا كان الأمر، فهذا مثال لا يستجيب لمواصفات الدستور المعروفة عندنا.
تتجلَى العلاقة بين شريعة حمورابي ومصدرها بكل وضوح على المسلة. فعلى جزئها العلوي، ترى نحتا بارزا يمثل إله الحق والعدالة جالسا على العرش، وبيده اليمنى عصا الراعي وخيط القيس وتحديد الأسعار وهو يتهيأ لتسليمها إلى حمورابي الواقف أمامه بخشوع. ومن كتفي هذاالإله، تنبثق أشعة الشمس المبددة للظلمة والظلام. وهو ما يشير الى أنّ مصدر التشريع هنا يكمن في قوة إلهية أيَا كان اسمها وأيا كانت مواصفاتها. هكذا كان الأمر أيضا بالنسبة للتوراة حيث أصدرت قوّة إلهية قوانين جسّدتها التوصيات العشر وهي التي وردت في الاصحاح الخامس من سفر التثنية وتحديدا من الآية السابعة الى الآية الواحدة والعشرين.
فهل تمثل هذه المصادر الإلهية دساتير؟ أفَضِلُ ترك السؤال مطروحا على المختصين في شأن القانون الدستوري ولو بدا لي، في ضوء بعض الدراسات المختصّة، أنَها لا تستجيب لمواصفات الدستور كما تمَ تحديده. فالدستور يتعلٌق بالمؤسسات التي تضع نحو المجتمع وصرفه وتضبط طرق نقلها ونظام ممارستها داخل الدولة. فلا نجد في النصوص السومرية الأكادية ولا في التوراة ولا في القرآن ما يستجيب لهذا المفهوم للدستور.فليس في هذه المرجعيات الدينية ما ينصّ عن طريقة نقل السلطة وممارستها. فلم يوص الرسول بطريقة يتوخّاها المسلمون لاختيار الخليفةولا بقواعد دقيقة يجب احترامها لممارسة الحكم وتطبيق القانون وهذا الفراغ لم يخف على الدارسين المختصّين على أنّ الكتب التي تضمّ قوانين دفاتر دوّنت فيها قواعد نحو المجتمع وصرفه دون أن تكون دساتير
ومعلوم أنّدستور كلمة فارسية لها معان عديدة منها المراقبة والترخيص والمثال الذي يقتدى به كما تشير الكلمة إلى دفتر تسجّل فيه أسماء الجنود وبلدانهم وتعني القاعدة التي يعمل بمقتضاها الوزير ولها معان أخرى لا يتسع المجال لذكرها ثمّ لا أدري متى اندسّت لفظة دستور في القاموس العربي فليس ما يفيد أنّها توجد في الشعر الجاهلي وليس لها وجود في معجم القرآن الكريم ولم أعثر عليها في لسان العرب فتبقى المسألة مطروحة على بساط البحث.
ففي مدينة أثينا، خلال القرن السادس قبل ميلاد المسيح، أدخل سولون Solonإصلاحا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وهيأ لميلاد قانون دستوري جسّدته مؤسسات تشريعية منها مجلس الشعب Ecclesia ومجلس الأعيان La Boulé ومجلس ثالث يسمى الأرِيّوباج Aréopage وهو محكمة عليا تستمّد اسمها من هضبة الإلهArèsوكانت تتولّى النظر في تصرّف رجال الدولة من حكام وقضاة وغيرهم. ومن صلاحياتها شؤون الأمن والتربية والدين.
وفي القرن السادس قبل الميلاد، يستشفّ من بعض الأحداث السياسية والعسكرية أن قرطاج كانت تتمتّع هي الأخرى بنظام دستوري ديمقراطي. ففي رواية أوردها المؤرخ اللاتيني يوستينوسJustinنجد إشارة إلى مجلس الشيوخ ومجلس الشعب وهما مؤسستان تشريعيتان. فالمرجح أنَ هاتين الغرفتين تكونتا طبقا لنظام معين أو لقانون دستوري مسطور أو ممّا تمّ الاتفاق عليه وبقي شفويّا تقليديّا. وأيّا كان الأمر، فالمؤرخ لا يستطيع وصف ذلك النظام لغياب المعلومة في الغرض. أمّا تلك الأحداث المشار إليها، فمضمونها أنّ القرطاجيين أصدروا حكم الإبعاد ضد قائد عسكري يدعى ملكووقد اتّهم هذا القائد بالتقاعس في آداء واجبه العسكري. ولمّا حكم عليه بالإبعاد وحرمانه من الإقامة في قرطاجتحدّى السلطة الشرعية ودخل قرطاج عنوة. ثم جمع القرطاجيين واشتكى لهم محاولا إقناعهم ببراءة موقفه ثمّ تنمّر وتسلّط ولم يتردد في تنفيذ حكم الإعدام على عشرة من أعضاء مجلس الشيوخ انتقاما منهم ثمّ أعاد السلطة الى الحكومة الشرعية. ولكن بعد مرور مَدة قصيرة، اتهم القائد ملكوثانية بالسعي إلى اغتصاب السلطة فحوكم وتمَ إعدامه.
وفي بداية القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، أورد المؤرخ الإغريقي هيرودوتس رواية حول سلطان قرطاجي منتخب مضيفا أنّ الانتخاب كان على أساس القيمة الذاتية دون اعتبار النّسب والأسرة. (هيرودوتس: تاريخ، الفقرة 165 من السفر السابع) فهذا النّص الإغريقي يثبت مبدأ الانتخاب لدى القرطاجيين ويشير إلى كيفية تطبيقه ممّا يجيز احتمال وجود دستور قرطاجي في ذلك التاريخ. فهذه النصوص الإغريقية اللاتينية تحمل في طياتها مادة إخبارية تؤيد احتمال وجود مؤسسات يستند اليها المشرّع في قرطاج منذ القرن السادس قبل الميلاد ولعلّها ترقى الى ما قبل ذلك الزمن. ومنها مجلس الشعب ومجلس الشيوخ هذا وفي السياق ما يشير صراحة إلى حكومة شرعية.
إن المجتمع القرطاجي حضري مدني متفتح يتميز بالحركية والتعايش بين مختلف الفئات مع تفاوة يفصل بينها من حيث القدرات الاقتصادية والوزن الاجتماعي والفاعلية السياسية. فهو مجتمع حضري ومعنى ذلك أنه يعيش في محيط تفرزه المدينة، وهو مجتمع مدني ومعنى ذلك أنه مؤطر بقوانين يساهم المواطن في بعثها وتكريسها في الواقع المعيش، فالمؤسسات في قرطاج دستورية عمادها قانون دستوري يفرض الانتخاب وتشريك المواطنين في أخذ القرار.وفي منتصف القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أنجز حنّون الأكبر رحلته البحرية الشهيرة التي مكّنته من اجتياز غربي المتوسط واختراق المحيط واكتشاف سواحل قارّتنا من شمال المغرب الى الشواطئ التّي يطل علها جبل الكمرون. سجّل أمير البحر حنّون ما عاشه وشاهده في المحيط وعلى السواحل وداخل الجزر في تقرير رسميّ سرّي مفصّل سلّمه الى سلطة الاشراف وقد لخّصه في نسخة غير رسمية زبرت على لوح من برونز علّق في معبد بعل حمّون ليتمكّن الذين يزورون المعبدمن قراءة ما سطر على اللوح فيزدادون حبا لقرطاج واعتزازا بها وبمآثر رجالها. هذا وقد نقل النص الى اللغة الاغريقية المعتمدة اذذاك في قرطاج حتّ يتمكّن الزائر الأجنبي من قراءته والاطلاع على مآثر القرطاجيين. ولئن ذكرت هذا الحدث فذلك لأنّه يثبت دورالشعب القرطاجي في رسم سياسة الدولة وهو ما يتجلّى في الفصل الأول من الأمر الذي بموجبه تولّى أمير البحر حنّون القيام برحلته الشهيرة عبر مياه المحيط ففي هذا الفصل جاء ما يلي.رأى القرطاجيون من المفيد تكليف أمير البحر حنّون باجتياز المحيط. ولا شك أن الهدف الأساسي من وراء هذا المشروع كان تأسيس بعض المستوطنات والتعرّف على طريق الذهب ومصادره. فهذا المدخل يثبت أنّ حنّون كلّف بقيادة هذه الرحلة بأمر من الشعب القرطاجي وكلمة الشعب هنا تشير الى مجلس الشعبومنه الى المرجعية التي تتضمّنها العبارة دون ذكرها.
دستور قرطاج
يتميز دستور قرطاج بالواقعية والتوازن بين الفئات فكان يستجيب لمقتضيات المجتمع وقد نوّهت به المصادر القديمة ووصفت دواليبه ونظمه وطرق تكوينها. على أن ما يتوفر من المعطيات حول دستور قرطاج لا يفي بالحاجة ولا يمكّن المؤرخ من الوقوف على المواصفات والتفاصيل جميعها مع العلم أنَ المخبر الأساسي في هذا الشأن من تاريخ قرطاج وحضارتها هو الفيلسوف الإغريقي أرسطو صاحب كتاب السياسة الذي يعود إلى القرن الرابع قبل ميلاد المسيح وينضاف إلى هذا المورد الثمين شذرات مبعثرة في كتب القدماء من إغريق ورومان. هذا وفي قرطاج وبعض المدن الأخرى تم العثور على نقائش بونية تشير إلى قضاة وموظفين في المجالين الديني والمدني فاستنادا إلى هذه الوثائق المختلفة يمكن رسم ملامح الدستور القرطاجي ومن مميزاته الجديرة بالتنويه أنه ينصّ عن نظام ذي غرفتين تعرض القوانين على كلتيهما لتصبح نافذة المفعول والمرجّح أن ما أورده أرسطو يشفّ عما كان في قرطاج في عهد هذا الفيلسوف الاغريقي وقد يكون مختلفا عن السابق وعن اللاحق على أنّ الغرفتين تبدو موثقّتين منذ القرن السادس قبل الميلاد.
مجلس الشعب
تعرف الغرفة الأولى بمجلس الشعب وكانوا في قرطاج يسمونها عم قرت حدشتوتمثّل كل المواطنين الذين تتوفر فيهم شروط ضبطها المشرَع لكنَ الوثائق لا تتضمن معطيات واضحة تمكّن من الوقوف على الشروط والمواصفات. أما صلاحيات هذه المؤسسة فهي عديدة تتعلق بالحرب والسلم والحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بل لمجلس الشعب حق النظر في كل المسائل وله صلاحيات عديدة فهو الذي كانت له مبادرة تكليف حنون بالرحلة البحرية عبر المحيط الأطلسي وقد انتهى به المطاف الى سواحل الكمرون.
مجلس الشيوخ
كيف كانت تسمى هذه الغرفة الثانية عند القرطاجيين؟ ما زال الجواب عن هذا السؤال افتراضيا. فاستنادا إلى وثائق بونية متأخرة تم العثور عليها في مدن عديدة في شمال غربي البلاد التونسية، وفي شرق الجزائر وفي مواقع أخرى، قدمت فرضية مفادها أن ما نسميه بمجلس الشيوخ كان القرطاجيون والمتأثرون بالحضارة البونية يسمونه بعول قرطاج فالبعول في قرطاج وفي المدن البونية الأخرى يمثلون الأعيان ثروة ومعرفة وخبرة. قد تعود هذه المؤسسة إلى تقاليد الممالك الفينيقية وأعرافها. لكن تطورت واتّخذت طابعا دستوريّا ومن ذلك أن الأعضاء ينتخبون من قبل الشعب طبقا لما تقتضيه القوانين من شروط كالمواطنة والسنَ والثروة والمستوى الثقافي فضلا عن الوجاهة والقدرات الشخصية. ولم يخف عن القرطاجيين ما للدعاية من وزن للحصول على ثقة الناخبين وأصواتهم يوم الاقتراع ففي رواية أوردها مصنّف يدعى اليانوس وقد عاش في القرن الثالث بعد الميلاد ومضمون الرواية أنّ أحد القرطاجيين يدعى حنّون اشترى طائرا من فصيلة الطيور الناطقة كالببغاء وجعله يردّد حنون إله. فلا غرو والأمر كذلك أن يستفيد حنون من تلك الدعاية حضورا وشهرة بين الناس. أمّا عن عدد الأعضاء في مجلس الشيوخ فقيل ثلاثمائة. كانوا يجتمعون في مقر خاص وقد يعقدونجلساتهم في المعابد عند الاقتضاء. صلاحيات هذا المجلس عديدة متنوعة تغطي كامل ميادين السياسة والإدارة. فهو مركز التصوّر والتنسيق والمتابعة. يعلن الحرب ويمضي معاهدات السلم والتعاون مع الدّول الأجنبية ويناقش مشاريع القوانين الاقتصادية والتجارية والثقافية والاجتماعية: وبعد درسها ومناقشتها قد يصادق عليها وقد يبعدها. ومن صلاحياته النظر في بعض القضايا العدلية وخاصة منها تلك التي تتعلّق بتصرّف بعض القضاة وبعض الموظفين السامين والقادة العسكريين الذين قد يتّهمون بالتجاوز أو التقاعس أو بالفساد وسوء التصرّف في أموال الدولة. ويوكل إلى لجنة منتخبة تعد ثلاثين عضوا تصريف شؤون المجلس كتحقيق الملفات ومتابعتها وتهيئة جدول الأعمال طبقا لما قد يقتضيه الظرف ويضبطه القانون. وترفع اللجنة تقريرها إلى المجلس للنظر وإصدار التعليمات التي تراها صالحة.
السلطة التنفيذية:
نظم المشرّع القرطاجي أحكام السلطة التنفيذيّة وخصّص لها فصولا في الدستور ويوكل تنفيذ القوانين والأحكام الترتيبية إلى سبطين والسبط في قرطاج هو القاضي بالمعنى الواسع ومفاد ذلك أنّه يقضي بين الناس ويدير شؤونهم طبقا للقوانين المصادق عليها في المجلسين. يتولى السبطان تصريف شؤون الدولة بعد انتخابهما من قبل مجلس الشعب لسنة واحدة مع إمكانية الترشّح للخطة مرات عديدة، وتعتمد في اختيارهما مقاييس منها الثروة والكفاءة والمستوى الثقافي فضلا عن الوجاهة والقدرة على كسب الثقة والقيام بحملة انتخابية ناجعة. ومن صلاحيات السبطين دعوة الغرفتين للانعقاد وهما اللذان يهيئان جدول الأعمال بالتعاون مع لجان مختصة منتخبة ويترأسان الجلسات ويديران النقاش مما يوفّر لهما أسباب القيام بدور خطير فعّال وإليهما يوكل تنفيذ السياسة المتّفق عليها ويتابعان دواليب الإدارة ويشرفان على كل ما قد يستوجبه الإجراء.
السلطة القضائية
تندرج السلطة القضائية مبدئيّا ضمن صلاحيات السبطين فهما المسؤولان عن العدالة فقد يمارسان القضاء أو يفوّضانه إلى قضاة مختصين مكلفين بالنظر في شؤون المواطنين ويصدرون أحكاما طبقاللقانون وتأسّيا بما سبق مع اعتبارالسياق وتقديره حقّ قدره.
مجلس المائة
وإلى جانب المحاكم العادية التي تنظر في القضايا المدنية والعدليةيوجد مجلس مختصّ يعرف عند القرطاجيين باسم مجلس المائة يوكل اليه النظر في القضايا المتعلقة بالتصرف الإداري في المدنيّ والعسكري لا سيما القضايا التي لها علاقة بأمن الدولة. وتتميز هذه المحكمة العليا بسلطان أعضائها الدائمين. على أنّ هذه المحكمة العليا المختصة بعثت لمواجهة الفساد والتصدّي لمن قد يتطاول على الدولة ويسعى الى التسّلط على دواليبها والتّحكم في مفاصلها. وردت أخبار هذه المحكمة في مصنفات يوستينوس في القرن الثالث بعد ميلاد المسيح ولا شكّ أنّه اقتبسها من كتب سابقيه.ويرجّح أنّ بعث هذه المحكمة يرقى الى ما بين نهاية القرن الخامس وبداية القرن الرابع قبل ميلاد المسيح فقد بعثت في عهد الأسرة الماجونية و هيأسرة بقيت تدير شؤون قرطاج في كنف الشرعية طيلة أجيال وبالطرق القانونية. ولكن الشعب القرطاجي أصبح يتوجّس خيفة من ديمومتها في الحكم فاتقاء لشرّ ما قد يطرأمن تصرّفات الحكّام أنشأ القرطاجيون محكمة المائة لتتولّى محاسبة الذين يمارسون السلطة التنفيذية والذين يتولّون قيادة الجيوش. فبعد انتهاء مها مّهم يمثل القضاة وقادة الجيش وكبار المتصرفين امام هذه المحكمة لعرض تقارير حول ما قاموا به أثناء ممارسة مهامّهم. ففي تقديمه للأسرة الماجونية كتب يوستينوس ما يلي: ولمّا كانت هذه الأسرة القوّية تمسّ بالحريات العامة وتستأثر بالحكم وبالعدالة تمّ بعث محكمة تتركب من مائة قاض ينتخبون من بين أعضاء مجلس الشيوخ. وفي أعقاب الحرب بات من الضروري أن يمثل القادة أمام هذه المحكمة ويقدموا تقارير حول ما قاموا به أثناء الحرب حتّى يكون الخوف من سلطان القوانين والمحاكمة في قرطاج رادعا يشعرهم بضرورة احترام الدولة أثناء ممارسةالقيادة.
لا يتّسع المجال للتعليق على هذا الخبر وعلى كلّ فهو يثبت حيوية الدستور والقوانين في قرطاج ويشير الى وعي بضرورة فصل السّلط وهو ما نلمسه في خوف القرطاجيين ممّن يستأثر بالحكم والعدالةولكن هذه المحكمة التي بعثت من أجل حماية الدستور والقوانين أصبت بمرور الزّمن سيفامسلولا فوق رقاب الذين يتحمّلون المسؤولية، مدنية كانت أو عسكرية، مما جعل المواطن القرطاجي يخشى مخالب تلك المحكمة الرهيبة ولا غرو أن يتسبّب ذلك في الانكماش والابتعاد عن المبادرة. فلمّا تولى حنبعل الأسباطية سنة 196لم يتردّد في حل تلك المحكمة العليا أملا في إعادة الثقة للناس وطمأنتهم على أموالهم ونفوسهم.
اللجان المختصة والهيئات النظامية:
ومن بين الذين كانوا يمارسون السلطة بتفويض تجدر الإشارة إلى عديد اللجان المختصة والهيئات النظامية التي منها اللجان الخماسية وقد ذكرها أرسطو في وصفه لدستور قرطاج وكان يوكل لبعضها القيام بمهامّ داخل البلاد أو خارجها فهذه تهتمّ بشؤون الديانة والمعابد وأخرى تعتني بقضايا الحسبةومراقبة الأسواقوالضرائب وغيرها وقد أشارت بعض النصوص البونية الى وجود محاسبين يسهرون على سلامة الأسواق وحمايتها.
ولما كان الغزو الرّوماني، أصبحت تونس جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية الرومانية بل ولاية تدعى أفريقة وليس لها مؤسسات تشريعية مخصوصة وكذلك شأنها بعد الغزو العربي الإسلامي. فكانت افريقية تابعة للخلافة الإسلامية، وللسلطان في دار الإسلام، خليفة كان أو أميرًا، حكم مطلق يستند مبدئيا إلى القران والسنّة وكم كان الواقع في غالبالأحيان بعيدًا عن المبادئ الإسلامية حتى كان القضاة المتمسّكين بالمبادئ يتعرضون إلى المتابعة والاضطهاد ولا يتردد الحاكم في إعدامهم إذا أوجسَ خِيفة من أحكامهم. تعاقبت الدول العربية الإسلامية في تونس من الأغالبة إلى الأسرة الحسينية مرورًا بالفاطميين والصنهاجيين والحفصيين أي من القرن الثامن إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر دون أن تنشأ فيها مؤسسات تشريعية بالمفهوم الدستوري الحديث.
عهد الآمان
تعاقب أفراد الأسرة الحسينية على عرش الإيالة التونسية يمارسون حكما مطلقا لا يخلو من الظلم والتعسّف حتى أصبحت البلاد لا تستطيع الوقوف في وجه القوى الأوروبية التي كانت تسعى إلى ابتزاز خيراتها والاستئثار بها. فنشأت حركة إصلاح من وحي خارجي تأسّيا بما كان يحدث في صلب الدولة العثمانية. ومن بين المؤسسات التحديثية التي أنجبتها حركة الإصلاح في بلادنا، لا بدَ من ذكر المدرسة العسكرية التي أحدثها المشير أحمد باي.وفي سنة 1840 رتّبها مكتبا حربيا بباردو لتعليم ما يلزم العسكر النظامي من علوم ولَغات أجنبية دون إهمال الدراسات القرآنية. وقد أحاط المشير أحمد باي هذه المدرسة الحديثة بعنايته الخاصَة فساهمت في تكوين نخبة تجمع بين الأصالة والتفتح، كما ساهمت في نشر مبادئ الحداثة توقا إلى ما تعيشه المجتمعات الغربية من عدل وازدهار بعيدا عن استبداد الحكّام وجبروتهم. هكذا أصبحت فكرة قانون الدولة تخامر النخب وإن لم تكن ممن ينتمون إلى القصر وما أورده ابن أبي الضياف في كتابه الموسوم «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" لا يترك للشك مجالا.
فقد كان قناصل الدول الأجنبية على وعي كامل بما تطمح إليه النخب، فتحمّسوا للإصلاح تماشيا مع الحركة الإصلاحية الَداخلية ولكن لغاية في نفس يعقوب: فلقد كانوا يريدون من وراء اصلاح الدولة خدمة لمصالحهم وطموحات جالياتهم ودولهم حتى أنّهم فرضوا الإصلاح على الباي فرضا مهدَدين بالتدخل في شؤون الإيالة في حالة الامتناع أو التباطؤ. وأيّا كان الأمر، فقد وعد المشير محمد باشا باي في العاشر من شهر سبتمبر 1857بعهد الأمان الذي تضمن مبادئ تتعلق بالضرائب وحقوق الأفراد والحريات الأساسية على أنَ الأهم، بالنسبة لقناصل الدول الأجنبية، يكمن في المساواة بين الأفراد مهما كانت جنسياتهم وهو ما يفتح للأجانب حقوق العمل والتنقل والملكية وممارسة ديانتهم في ظروف آمنة. يعتمد عهد الآمان إحدى عشرة قاعدة: ففي الأولى تأكيد الآمان لسائر الرعية وسكان الإيالة على اختلاف الأديان والألسن والألوان. وفي الثانية تساوي أصل قانون الأداء المرتب أو ما يترتب. وتوصي الثالثة بالتّسوية بين المسلم وغيره من سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف. ومضمون الرابعة أنَ الذمّي من الرعية لا يجبر على تبديل دينه ولا يمنع من إجراء ما تستوجبه ديانته. وتتعلق الخامسة بالخدمة العسكرية بحيث لا يؤخذ العسكر إلاَ بترتيب وقرعة مع بقاء العسكري في الخدمة مدَة معلومة. أما السادسة، فهي تخص محاكمة أهل الذمَة بحضور شخصية من أعيانهم دفعا لما قد يحدث من الحيف. وتعتني السابعة بتكوين مجلس للتجارة بالتشاور مع الدول الأخرى. وفي الثامنة إقرار المساواة بين المسلمين وغيرهم من الرعية في الأمور العرفية والقوانين. وفي التاسعة تسريح المتجر حتى لا يستأثر به أحد بل يكون مباحا للجميع. وتضمن العاشرة للوافدين على الإيالة حقَ احتراف سائر الصنائع والخدم حسب ما يقتضيه القانون. وتضمن القاعدة الحادية عشرة حق الملكية للوافدين على الإيالة مع احترام قوانين البلاد العالقة.
فبعد الإطلاع على الظروف والملابسات التي أحاطت بنشأة عهد الأمان، يتبين أنَه ثمرة ضغوط القناصل المعتمدين في الإيالة لا سيما قناصل فرنسا وأنقلترا وإيطاليا وقد كانوا يفكرون في حقوق جالياتهم ومصالحها مع اعتبارها مطامح دولهم المستقبلية ومنها كسب حق الانتصاب والملكية والشغل وهي ظروف تشجّع الهجرة الأوروبية. أمَا حظَ التونسيين من عهد الأمان، فهو ضئيل بل يرى بعضهم أنهَ لم يكن موجّها إليهم بل كانوا بعيدين عنه من حيث الأسباب والأهداف وقد علق الدكتور الأزهر بوعوني على عهد الأمان بقوله: " لم يمثَّل تعبيرا عن إرادة حرَة ولا استجابة لتطلعات شعبيَة مفصوح عنها: فقد كان يستجيب أساسا وبالدرجة الأولى لمصالح رعايا الدول الأجنبية في الإيالة التي مارست ضغوطا كبيرة للحصول عليه بعد إعدام يهوديّ تونسي اتَهم بتحامله على الدَين الإسلامي من ذلك أربعة فقط من جملة إحدى عشر فصلا احتوى عليها هذا العهد كانت خاصة بالتَونسيين".
ومعلوم أنّ مرجعية النصّ الذي تمَ الاتفاق عليه تتمثل أساسا في التنظيمات الخيرية وفي مطالب قناصل الدول الكبرى. فكان على ابن أبي الضياف وعلى من شاركه في الإنشاء أن يضمّنوا في عهد الآمان عناصرًا مضبوطة تقدّم بها كل َ من قنصل فرنسا وقنصل الأنقليز وكلاهما يمَثل دولة تريد ضمَ الإيالة التونسية إلى مناطق نفوذها بل إلى إمبراطوريتها. فلقد كان عهد الآمان من تصوّر الآخر فلا علاقة له بالدولة التونسية باستثناء تعاطف بعض المتفتحين على حركة الإصلاح والتحديث كتلك التي أسست من أجلها المدرسة العسكرية. ففي الذين تخرجوا من هذه المدرسة أو تأثروا بها وجدتالمفاهيم الجديدة تربة خصبة ومحضنة ملائمة. وأيَا كان الأمر، فالتجربة، وإن بدت فاشلة، فهي ولا شك ساهمت في تغذية روح الإصلاح وسيبقى أثرها في المعين التونسي.
فهل كان الباي مقرَا العزم على تطبيق ما تضمَنه عهد الأمان؟ إنَ الرسائل التي وجَهت إلى القناصل تبدو مطمَئنة وجاء في تلك الرسائل ما يلي.أما بعد، فالواصل لكم نسخة من العهد الذي قرأناه لجميعكم في موكب يوم الأربعاء في 20 محرم سنة 1274، بمحضر أهل مجلسنا الشرعي وكافة أركان دولتنا وأعيانها والنسخة مصححة بخطنا ومطبوعة بختمنا، لتكون عندكم معلومة محفوظة، وبعين الإعتبار لما فيها ملحوظة. فقد أشهدناكم على إجراء العمل بما فيها، وترك ما ينافيها. واللَه يجعل في مضمونها الخير والصلاح، واليمن والنجاح. ودمتم في أمن اللَه وحفظه.
فهل كان صاحب السمو على وعي كامل بما كتب وتعهّد؟ سؤال تعسر الإجابة عنه بوضوح ودقة. ذلك أنَ صاحب الإتحاف أثبت أن الباي لم يغيّر شيئا من سلوكه ومواقفه وكأنَّ عهد الأمان جُعِلَ ليكون بالنسبة للتونسيين حبرا على ورق. وظنّ الباي أنَ المراد بعهد الأمان قد تمَ بوجود حروفه في الَصحف والمناشير.
ارتمض قنصل الفرانسيس لهذا الأمر ولم يتردد في التهديد والتلويح بتدخَل صارم في شؤون المملكة. فأوجس الباي خيفة وأحدث مجَلسا من كبار الشخصيات يجتمع بدار الباي بالقصبة يومي الأربعاء والخميس من كلَ أسبوع " للتفاوض في شرح الفصول المسطّرة في عهد الأمان" في ضوء ما رتَبته الدولة العلية العثمانية وغيرها من الَدول. واجتمع المجلس بدار الباي برئاسة الوزير مصطفى خز ندار.
ولمَا تبوَأ الباي محمد الصادق العرش أعلن أنَه لن يخالف "ما عهد به أخوه" وبادر فعلا بتطبيق ما تضمّنه عهد الآمان من مبادئ وقواعد. واخترع الباي نيشانا مرَصعا بالياقوت سمَاه نيشان العهد كتب في وسطه "عهد" وفي دوره "عرض الصادق أمانة" وإن لم يذكر في القانون المخصوص له سبب هذه التسمية فالمتبادر من اللفظ، في رأي ابن أبي الضياف، أن المراد بالعهد عهد الأمان. وفي إحدى المناشير التي أصدرها محمد الصادق باي نجد هذه العبارة الهادفة: "ونظمنا بعهد الأمان جماعتكم" فلقد كان حريصا على إتمام القانون فعين رجالا من الأعيان للمجالس التي رتَبها وأحكم عقدها في قانون الدولة. ومن هذه المجالس المجلس الأكبر وهو مجلس الشورى.
المجلس الأكبر
أحْدِثَ المجلس الأكبر في يوم الأحد 19 أوت 1860 وقد عرّف به صاحب الإتحاف بقوله مجلس الشورى وأعضاؤه لا تتجاوز الستين ثلثهم من الوزراء ورجال الدولة والثلثان من أعيان المملكة وشرط الصَحة فيهم الوجاهة ومعرفة أصول المنافع والمضاَر وما يقتضيه حال الوقت لأنَ رأيهم معتمد. وهؤلاء الأعيان لا تكون خدمتهم مسترسلة، بل يتبدل القدر المعيَن منهم بعد مدة معينة في القانون، ويخلفهم غيرهم من أهل المملكة، ونظر هذا المجلس يتعلق بحفظ عهد الأمان والقوانين وحماية حقوق سكان المملكة فيما يقتضي التساوي بين يدي الحكم. ولا يعزل أحد من أعضاء مجلس الجنايات والتحقيق إلا برأيهم، بعد ثبوت الذنب عندهم وعرض ما يظهر لهم من المصلحة للدولة والمملكة. فأصبح المجلس الأكبر يشكَل أسمى هياكل الدَولة التونسية إذ ذاك. فهو، وإن لم يكن منتخبا، يتمتّع بصلاحيات هامة رصدها الأستاذ الدكتور زهير المظفر في كتابه " مجلس النواب بتونس " الصادر سنة 1989 ضمن منشورات المدرسة القومية للإدارة حيث كتب في الصفحة الثامنة ما يلي:
وبالرغم من أن هذا المجلس لم يكن منتخبا فقد كان يتمتّع بصلاحيات هامة إذ يقوم مقام مجلس الدولة ودائرة المحاسبات ودائرة النقض والإبرام ومحكمة القضاء العليا. إلاّ أن مهامه الأساسية كانت تتمثّل في سنّ القوانين وتنقيحها والموافقة على الزيادة في الأداء أو التنقيص منه وشرح القانون وتأويله. ومن مشمولا ته أيضا مراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية الذي يعرضه عليه الوزير الأكبر. إلاّ أن هذه الصلاحيات الواسعة لم تمكّن المجلس الأكبر من السيطرة على الحياة السياسية. مع العلم أنَ مواقف الباي وسلوكه كانت متناقضة ومن ذلك أنّه لم ير حرجا من قتل رجل ادعى أنه المهدي المنتظر وذكر أنَه يريد الجهاد. فلقد أمر الباي بقطع رأس الرجل المعتوه دون حكم شرعي ودون أي اعتبار لمبادئ عهد الأمان ومع ذلك تراه يهديكتاب القانون الى الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث بمناسبة الزيارة التي قام بها للجزائر في سبتمبر 1860، من يد إلى يد تأكيدا لاستمرار العمل به. على أن تطبيقه بدأ في 26 أفريل 1861.
ولكن شيئا لم يتغير في المملكة وبقي عاهل الإيالة يمارس سلطانا مطلقا بالتعاون مع المماليك الذين لا همَّ لهم سوى النهب وابتزاز أموال البلاد والعباد. وتعاقبت الأحداث والتجاوزات حتى شبَت نار الثورة التي تزعّمها على بن غداهم سنة 1864 مستندًا إلى بعض القبائل المتمرّدة. وبلغت حالة الاضطراب أشَدها وتفاقمت ضغوط الدول الأجنبية فأعلن الباي تعطيل العمل بقانون الدولة وبالتالي توقيف المجلس الأكبر.
المجلس الكبير
ولكن لمّا فرضت فرنسا حمايتها على الإيالة التونسية وقضت على مختلف أركان سيادتها على أساس اتفاقياتمملات أمضاها الباي محمد الصادق تحت الضغط في 12 ماي 1881 تحت قبّة القصر السعيد ببارد ثم أتممت المعاهدة في الثامن من شهر جوان 1883بالمرسى. وفي 10 نوفمبر 1884 أصدر رئيس الجمهورية الفرنسية أمرًا يمنح فيه تفويضا للمقيم العام مضمونه أنّ أوامر الباي لا تكون نافذة المفعول إلا بعد مصادقة المقيم العام ممثل الجمهورية الفرنسية في الإيالة التونسية. وتمريرا لهذا الوضع الجديد، أحدثت هيئة استشارية سنة 1896 أعضاؤها مختارون من صلب الجالية الفرنسية المقيمة في تونس. وتحصلت الجالية الفرنسية سنة 1905 على حق انتخاب أعضاء هذه المؤسسة. ثمّ عوضت تلك الهيئة الاستشاريةبالمجلس الكبير سنة 1922.
ولئن أدخلت تحويرات على هذا المجلس فقد بقي بعيدا كل البعد عمَا كان التونسيون يطالبون به وبالتالي، فهو لا ينخرط في سياق المؤسسات التشريعية التونسية بل لا يعدو أن يكون صورة مشوّهةلأهمّ المطامح التونسية الأصيلة المتمثلة في توق الشعب إلى برلمان تونسي ودستور تونسي وهو ما نادت به الحركة الوطنية على تعاقب الأجيال: فبعد حركة التحرير والنضال المرير الذي توّج بالاستقلال مرورًا من نظام ملكيّ مستبدّ إلى نظام جمهوريّ شعبي تولى بناء الدّولة وتحرير الإنسان من الجهل والمرض والفقر.
وأيا كانت الظروف والتطورات، فلقد بقي الشعب التونسي متشبثا ببعده الدستوري فهو الحزب الحر الدستوري وهو الحزب الحرّ الدستوري الجديد وهو الحزب الاشتراكي الدستوري ثمّ يتحوّل إلى تجمع دستوري ديمقراطي. فحركة الإصلاح التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر مع المشير أحمد باي والوزير خير الدين والتي كانت ومازالت تطمح الى بناء دولة القانون مع الشعب ولصالح الشعب عملا بمبادئ التكاتف والتضامن والاعتراف بالآخر مع التأصّل والتفتّح.
من مجلس الأمة إلى نظام الغرفتين
وما إن تمكنت البلاد التونسية من الفوز باستقلالها في20 مارس 1956 حتى بادرت بتجسيد مطلب كانت الجماهير التونسية تنادي به منذ منتصف القرن التاسع عشر ويتمثل في إنشاء برلمان تونسي. ففي الخامس والعشرين من شهر مارس جرت الاانتخابات المكونة للمجلس القومي التأسيسي وقد بدأ التحضير لهذا اليوم المشهود منذ التاسع والعشرين من شهر ديسمبر 1955 حيث أصدر الباي إذ ذاك أمرا يقضي باستدعاء مجلس قومي تأسيسي ليوم الأحد 8 أفريل 1956 لسنَّ دستور للمملكة ووضّح الأمر طريقة انتخاب النواب فكان المنطلق الذي تمخَض عنه النظام الجمهوري في بلادنا ومكَّن التونسيين من التمتع بحقوقهم السياسية وجعلهم يرتقون من مستوى الرَعية إلى مستوى المواطنة مع العلم أن نظرة الباي كانت إذ ذاك محدودة هدفها تمكين المملكة الحسينية من دستور يفضي عليها شرعية شعبيةويحكم سير مؤسسات الدولة مع تحديد حقوق المواطنين وواجباتهم.
لكن تجاوز المجلس التأسيسي الحدود التي رسمت له ولم تخف خلفيات الباي على الزعماء والمجاهدين فالنتيجة كانت أنّ المجلس التأسيسي لم يرسم دستورا للمملكة بل أقام نظاما جمهوريا تمّ الإعلان عنه في 25 جويلية سنة 1957. وأفل نجم الأسرة الحسينية من سماء تونس بعد قرنين ونصف من وجود اتّسم بالجمع بين الضحالة والتعسف مع بعض الاشراقات المحدودة. ولا شكَ أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يعتبر صاحب الدور الأساسي في نحت دستور الجمهورية التونسية. وقد أوكلت إليه رئاسة أول جمهورية تونسية بمقتضى الدستور الذي نشر في غرَة جوان 1959. يعتبر هذا الدستور ثمرة نضال مرير قام به الشعب التونسي بقيادة الحزب الحر الدستوري الجديد تجسيدا لتطلعات الشعب وتكريسا لما تصوَره الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه الذين لم يترددوا في استثمار شرعيتهم التاريخية والتَجارب التي اكتسبوها طيلة حياتهم النضالية ليكون الدستور مستجيبا لطموحات الشعب التونسي ومحققا لآماله وأحلامه ومكرَسا للنَظام الرئاسي وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد الفتاح عمر في كتابه الموسوم " الوجيز في القانون الدستوري " ومنه هذه الفقرة: ص. 63.
فقد أقرَّ الدستور لفائدة رئيس الجمهورية بدور أساسي وأسند إليه ممارسة السلطة التنفيذية كلّها دون أن يكون مسؤولا عن نشاطه أمام أي كان. كما أقرَ الدستور لفائدة مجلس الأمَة والذي لا يمكن حلّه من طرفأي كان ممارسة السلطة التشريعية كلها. ولكن هذا التوازن العام للنظام الرئاسي كان محدودا، إذ أن الدستور أخذ بعديد الإمكانيات التي من شأنها أن تدعم سلطة رئيس الجمهورية لتجعل منها السلطة التي تتمحور حولها مجموع المؤسسات.
لقد أدخلت على هذا الدستور تعديلات جزئية لا يتّسع المجال لذكر جميعها بل نكتف بذكر أخطرها وهو القانون الدستوري عدد 13 لسنة 1975 المؤرخ في 19 مارس 1975 الذي عَدّل المادة 39 لإسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة. وفي سنة 1976 تمَ تعديل أساسي حيث أصبح رئيس الجمهورية يمارس السلطة " بمساعدة حكومةيرأسها وزير أول وبذلك ابتعد النظام التونسي عن الأنظمة الرئاسية البحتة وقد استوجب هذا التعديل تعديلات أخرى تخص صلاحيات الحكومة ومسؤولياتها أمام مجلس النَواب كما تمكّن رئيس الجمهورية من حلَ مجلس النواب.
ولمّا كان انقلاب السابع من نوفمبر سنة 1987أدخلت تحويرات على نصّ الدستورتضمّنت فصولا تخصّ الحقوق والحريات لكنّها بقيت حبرا على ورق. أمّا الشعب التونسي فقد ظلّ مشدودا الى حداثة تجمع بين متطلبات التفتح ومقتضيات الهوية العربية. ويبرز هذا الخيار التحديثي بالخصوص في ثقافة تحرير المرأة. فقد بقي الشعب التونس في غالبه مؤمنا بحقوق المرأة معتبرا ايّاها جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، فما انفك يطالب بتعزيز مكاسبها باعتبارها مقوّما أساسيا من مقوّمات المشروع المجتمع الجديد الذي يطمحاليه الشعب التونسي وشرطا لازما لتحقيق الاقلاع الفعلي المنشود.إنّ تفعيل دور المرأة في الحياة السياسية والادارية وفي المجتمع المدني وإدماجها ضمن الحركية العامة للتنمية جعلت منها النخب التونسية جزء لا يتجزأ من صورة تونس المشرقة ومثالا للنّجاح في التوفيق بين الأصالة والحداثة. وتألق نجم المرأة التونسية في سماء العلم والمعرفة فكسبت العلم والمعرفة والخبرة ونالت جوائز فخرية من عديد منظمات دّولية تحسن رصد المواهب والعبقريات.
دستور 27 جانفي 2014
لا أستطيع تقديم هذا الدستور امام الذين وفّروا سداه ولحمته بل سبكوه بعرق الجبين مستندين الى تجارب شتّى وزاد معرفي غزير في مختلف المرجعيات والأهداف مع الاستفادة من خبرة المختصين في القانون الدستوري أملا في الاستجابة الى طموحات الشعب التونسي حقوقا وواجبات. فلا شك أن دستور 27 جانفي 2014 يستجيب لغالب تلك الطمواحات ففيه مالا تتضمّنه الدساتير السابقة. لم تسعفني الظروف للاطّلاع على تعاليق المختصين في الميدان لا سيما وبعض فصول هذا الدستور الجديد ما زالت تترقّب التطبيق الكامل لتصبح فاعلة ومنها الفصل 118المتعلق ببعث المحكمة الدستورية التي مازالت فجّة جنينة لمّا تر النوررغم صدور قانونها الأساسي في 3 ديسمبر 2015. فلا شكّ أن مجلسكم الموقر عازم على تفعيل هذا القانون حتّى لا يبقى حبرا على ورق كما كان الشأن لعديد القوانين في العشريات التي سبقت ثورة ما بين 18 ديسمبر 2010و14جانفي 2011.وممّا شدّني عندما اطلعت على توطئة هذا الدستور وفصوله مسألة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات فلا شكّ أنّ هذا يحسب الى الشعب التونسي وزعمائه وعلى رأسهم المرحوم المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة فقد تمّ التنصيص على المساوات بين المرأة والرجل في توطئة دستورنا الجديد وفي فصله الواجد والعشرين وهو ما نعتزّ به ونباهي. والغريب أن ترى من يشيح بوجهم عن هذا الكسب ويعتبر المرأة نصف الرجل. هذا وفي دستور 27 جانفي ثغرة لا بد من طمّها لأنها طمس لجزء كبير من تاريخنا العظيم وتتمثل تلك الثغرة في غياب المتوسط من دستورنا الجديد فكأنّي بالمشرع يريد تكريس القطيعة مع ما قبل الغزو العربي مع العلم أنّ تونس من أعظم وأجلّ بناة المتوسط بل أقول انّ تونس لن تدرك دوام التقدّم والازدهار الاّ بعد أن تستوي على مقعدها حول مائدة المتوسّط والجلوس حول مائدة المتوسط رهين كسبنا لتاريخنا وتراثنا ومن ذلك كسب شرعية قولنا للآخر ها نحنحتّى لا يقول لنا ها أنتم. وعندها تصبح بلادنا من جديد من بناة المتوسّط لا سيما إذا تحقّق حلم المغرب الكبير.
محمّد حسين فنطر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.