من سالف الأزمان ومن قبل التاريخ تلألأت الأنوار في بلدنا منذ نشأة الإنسان الأوّل التي يحدّدها العلماء اليوم - سبعة ملايين من السنين- مرّت الهجرات البشرية من أرضنا وتشير كلّ الخرائط الحديثة إلى أنّ البشر الأوائل انطلقوا من شرق القارة السمراء التي اشتقّ اسمها من اسم تونسالروماني Africa نحو شمالها ثمّ عمّروا أوروبا. وفي مدينة ڨفصة تأسست منذ آلاف السنين حضارة تدعى قبصيّة وكلمة Capsa مثلما يذكر الحبيب بولعراس في كتابه عن حنبعل تعني باللغة اللاتينية: الضوء. ذكرنا حنبعل، أسطورة الأساطير اسم تهتزّ له أركان روما التي دوّختها جيوشه ورغم ذلك فلم تأب نفسه أن يفعل بالمدينة ما فعله خصومه بقرطاج وفي ذلك لعمري دليل ساطع على الفكر النيّر الذي ميّز السلف في هذه الربوع. ثمّ جاء أوغسطينوس فأحيى الديانة الجديدة وسطع نجمه وما يزال في سماء الغرب المسيحي. ثم جاء عقبة فأنشأ المدينة المرجع: القيروان أمّ العواصم ومنها انطلق الفاتحون نحو الغرب فكانت ملحمة الأندلس وكان زمن الوصل والبذل والفكر المستنير. ثمّ شيّدت المهديّة ومنها انطلقت مسيرة المعز لدين الله نحو الشرق مشيّدا القاهرة أمّ الدنيا على حدّ تعبير الأشقاء هناك. وأنشأ التونسيون الأزهر ثاني الجامعات الإسلامية بعد الزيتونة وأنشأت فاطمة الفهرية جامعة القرويين في فاس. ولكم أنشأ الفاتحون من عهد أسد بن الفرات من معلم في صقلية في هاته الجزيرة وفي شبه الجزيرة الإيبيرية تكاد المدائن تنطق وتلهج بأشعار ابن رشيق والحصري وابن شرف. ثمّ جاء الموحّدون والحفصيّون فأنشأوا مدينة تونس المحروسة، هذه المدينة المعطاء التي أنجبت فيما أنجبت رجلا شغل الناس إلى يوم الناس: عبد الرحمان بن خلدون الذي قال عن نفسه في المقدّمة: " أنشأت في التاريخ كتابا وسلكت في تبويبه مسلكا غريبا واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا في هذا الكتاب بما ضمّنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة". وتتواصل مسيرة التاريخ وتسطع بصماتها في هذا البلد الذي قال في شأنه ذات يوم الأديب الفرنسي Maurice Dron : " إنّه يكفيك في تونس أن تنحني قليلا حتى يلفحك التاريخ". لقد أنشد مصطفى خريّف في الاحتفال الذي أقامته جمعية الخلدونية بمناسبة مرور ألف عام قمريّة على تأسيس القيروان : من وراء القرون والآماد في الدهور التوابع الأبعاد شامخ مجدك الذي يترآى ساطع نوره على الآباد زائر بالجلائل الغرّ لا تحصى وليست تنال بالتعداد إنّ أمجادنا لا تحصى ولا تعدّ فمعالمنا يفوق عددها الثلاثين ألف. بنى المتقدّمون وسار على أثرهم المتأخرون أسّست بيوت عامرة للعلم والعبادة " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " من الجامع الكبير في عاصمة الأغالبة إلى الجامع المعمور في الحاضرة. من بيت الحكمة في رقادة إلى مدينة العلوم في أريانة. لقد أينعت سنابل العلم والأدب عندنا من ماغون إلى ابن الجزّار ومن أبوليوس صاحب "التحولات" إلى منوّر صمادح صاحب "الكلمات". لقد تعدّدت عندنا معالم الفنّ والإبداع من الحنايا أعجوبة الدنيا إلى حدائق أبي فهر المستنصر بالله هذا الملك المغوار الذي وضع حدّا للحروب الصليبية. ومن مسارح قرطاج والجم ودقّة وسبيطلة إلى مدينة الثقافة في تونس التي تأوي فيما تأوي أكبر متاحف الفسيفساء في العالم.